Home News أليف شافاك تواجه انقسام العالم بجرأة سردا وفكرا

أليف شافاك تواجه انقسام العالم بجرأة سردا وفكرا

12
0

ليس من قبيل الصدفة أن يصدر للكاتبة والروائية أليف شافاك كتابان من جنسين مختلفين في الكتابة في فترة متقاربة هذا العام. النص الأول هو رواية “جزيرة الأشجار المفقودة”، أما النص الثاني، فهو أشبه بنص طويل يغلب عليه التحليل الفكري للعصر، مشحوناً بنبرة سردية فلسفية سياسية وجودية. النصان ترجمهما إلى العربية أحمد حسن المعيني، وصدرا حديثاً عن دار الآداب. وهما أيضاً يعالجان إشكاليات مشتركة ذات طابع وجودي احتجاجي لما نعيشه اليوم من اضطرابات، تتشابك وتتنافر بعبث وتضع العالم في حالة من القلق والحيرة والخذلان.

تتميز أليف شافاك في كليهما بسعة المعرفة التي تتطلبها الكتابة السردية والكتابة التحليلية التفحصية. تستغرق في “جزيرة الأشجار المفقودة” في معالجة ثيمات متعددة ترتبط بعمق في ما بينها من خلال شخصيات رئيسة وثانوية. إحدى هذه الشخصيات شجرة تين تعيش هجرتها عن جزيرتها قبرص بعد أن كانت غصناً صغيراً من شجرة تين سعيدة، نخرها النمل -بالمرض- بعد تقسيم الجزيرة إثر الحرب الأهلية في سبعينيات القرن الماضي بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك، وعلى خلفية دينية، وعرقية، تتحول إلى اختلافات اجتماعية وثقافية تقف حائلاً بين المحبين. وإذ تتخذ من الأسلاك الشائكة حدوداً تحرسها قوات الأمم المتحدة بعد سنوات من الاقتتال فهي لا تتمكن من تقسيم الأشجار التي تنمو على ضفتي هذه الحدود المصطنعة. لا تستطيع أن تقسم الطيور بين ضفتي قبرص المقسمة ولا أن تمنع بالوناً بيد طفل صغير من أن ينزلق من بين يديه ويعبر إلى الضفة الأخرى.

قبرص اليونانية والتركية

الهجرة بعيداً من قبرص أثناء الاقتتال كانت أشبه بنفي قسري عاشه القبارصة الأتراك واليونانيون بوصفه سمة لعصر منقسم يشهد تعقيدات النزاعات المسلحة والفقر مع أزمات اقتصادية متتالية، وتزايد معدلات البطالة، بخاصة مع ما حمله وباء كورونا من مضاعفات زادت من حدة هذه الأزمات ومشاعر الغضب والقلق الوجودي، بحسب أليف شافاك، وهددت وتهدد سلامة عقولنا في هذا العصر المنقسم. وإذ تلجأ شافاك في رواية “جزيرة الأشجار المفقودة” للتعمق كثيراً في معارف ودراسات عن الأشجار لتبيان الأثر البشري المدمر لها عبر شخصية التينة كاستعارة لصوتها، لمعالجة ثيمة التغير المناخي، فإنها في كتابها” كيف نحافظ على سلامة عقولنا في عصر منقسم” تلجأ إلى سرد أدبي أقرب للسيرة الذاتية كي تثير التفكير حول إشكاليات وجودية يعاني منها البشر، تتعلق بالهجرة والعنصرية وأعداد اللاجئين التي تكتفي فيها وسائل الإعلام بسرد الأرقام، عوض الغوص في الحكايات الشخصية لهؤلاء اللاجئين، “حيث تكمن المعرفة التي تحتاجها الحكمة كي تنمو وتترعرع للخروج من هذا التشظي بين الأزمات” في عصر التقانة والتقدم التكنولوجي. عصر يوفر فائض معلومات لا تساعد البشر على تجاوز أزماتهم الوجودية ولا يوسع المعرفة أو يعمقها.

فعلى رغم هذا الكم الفائض من المعلومات بحسب شافاك في كتابها” كيف نحافظ على سلامة عقولنا في عصر منقسم”، فإن هذا الفائض لا يسعه أن يردم الهوة الفاصلة بين المركز والهامش. ففي المركز يعيش قلة من البشر حياة رفاهية ووفرة، بينما في الهامش تعيش غالبية البشر كل الأزمات التي سببها من هم في المركز، وتركوهم نهش الفقر والقلق والحيرة والاضطراب والغضب في عجز لا يرون فيه نهاية النفق، ويفتقدون لإسماع صوتهم حتى في البلدان الأكثر ديمقراطية. تستشهد بحادثة جورج فلويد الذي قتل قبل أربع سنوات على يد شرطي أبيض في الولايات المتحدة الأميركية، من غير أن يملك القدرة على الدفاع عن نفسه. وهو ما يخلق حالة من العجز عن الاستماع أيضاً إلى ملايين المهمشين إلا من همسات خافتة وصرخات تنفجر أحياناً قليلة. كما في حالة آدا ابنة كوستاس وديفني حين تلجأ للصراخ في رواية “جزيرة الأشجار المفقودة” عندما تطلب منها معلمة التاريخ أن تجري مقابلة مع أحد أقربائها المسنين، وإحضار شيء قديم يعد إرثاً عائلياً، هي التي ولدت كمهاجرة في لندن ولا تملك أدنى فكرة عن عائلتها في قبرص.

لا تستطيع أن تجيب معلمتها عن سر ولع والدها بالأشجار لا سيما شجرة تين مدفونة في حديقة منزلها لحمايتها من صقيع لندن ريثما يأتي الربيع وتتمكن من التأقلم مع الأرض الغريبة. تصمت آدا حين لا تستطيع أن تجيب عن أي شيء يتعلق بعائلتها أو بسر تعلق والدها المبهم بالأشجار، ربما كبديل من العائلة والوطن. وهي تشعر أنها تحمل حزناً هو ليس حزنها. ربما ورثته من والدها أو أمها عبر الجينات. لا تعلم كيف تعبر عن هذا الحزن ولا تملك أجوبة يمكن أن لا تسبب لها بالإحراج أو تحميها من السخرية، فتنفجر بالصراخ. ولا تعلم أن والديها اللذين عاشا قصة حب، فرقتهما الحرب، وما لبثت السنوات أن جمعتهما لكن خارج حدود الجزيرة في لندن، بعد أن فقدت أمها (التركية) ديفني ابنها الذي حملت به من كوستاس حبيبها اليوناني الذي ذهب إلى لندن، على أمل أن يعود بعد شهرين، فبقي سنوات قبل أن يعود ويلتقي بديفني بعد انتهاء الحرب وتقسيم قبرص.

جغرافيا المفقودين

حين يجد ديفني في فريق يبحث عن مصير آلاف المفقودين، يكتشف أن ديفني فقدت ابناً يجهل وجوده. كانت ديفني أخفته عنه في دوامة من سوء الفهم الذي تولده الجغرافيا وتباعد المسافات. كانت قد أعطته للتبني إلى عائلة بريطانية ما لبث أن قضى طفلاً إثر وباء حصد الكثير من الأطفال البريطانيين حوتهم مقبرة. ديفني التي انضمت إلى فريق التنقيب عن المفقودين، إنما كانت تبحث عن ابنها المفقود عبر بحثها عن صديقيها يوسف ويورغوس، صاحبي ملهى التينة السعيدة قبل أن تفقد أثرهما في حمى الحرب المشتعلة واللذين قد يوصلانها إلى أثر ابنها. لا تلبث هي وكوستاس أن يكتشفا من خلال التنقيب عن جثتين تبين أنهما ليوسف ويورغوس اللذين قضيا في الحرب على يد ثلة من المسلحين بوصفهما كسرا المحرمات. فهما عاشقان مثليان كسرا المحرم الجنسي. لم يكف ذلك، حين كسرا محرماً عرقياً أيضاً في أتون الحرب المشتعلة – بوصف يوسف تركياً ويورغوس يونانياً- بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك، بل ومحرم العلاقة الدينية، مسلم ومسيحي. وهي محرمات غذت العنصرية بكل أبعادها العابرة للقارات والمجتمعات البشرية كما أوردت شافاك في كتابها “كيف نحافظ على سلامة عقولنا في عصر منقسم”. كتاب جاء – باعتقادي – كتعبير مكثف عن مشروع أليف شافاك الروائي. فهو يعكس الهموم التي تناولتها رواياتها كثيمات فاعلة للسرد ومفارقاته وغموضه، لا سيما في روايتها الأخيرة “جزيرة الأشجار المفقودة”. فهي جاءت كتجسيد صارخ لهذه الهموم مجتمعة وللأزمات الوجودية على خلفيات اجتماعية وعرقية وعنصرية وأسرية ودينية وبيئية …

 

وإن كان موضوع الهجرة طغى على رواية “جزيرة الأشجار المفقودة” فإن موضوعات أخرى تفرعت منه لتحكي ترابط الأزمات وتعقيداتها الشخصية عبر شخوصها، وأشجارها التي “كان المهاجرون الأوائل يتحدثون إليها طوال الوقت، حين لا يكون ثمة أحد في الجوار. يأتمنونها على أسرارهم. يصفون لها أحلامهم وتطلعاتهم، بما فيها تلك التي تركوها وراءهم، مثل خصل صوف عالقة في سلك شائك أثناء عبور السياج”، كما ورد على لسان التينة. “الأمر وما فيه أنهم يسعدون برفقتنا، يتحدثون إلينا كأنما يتحدثون إلى صديق قديم يشتاقون إليه. ما أحنّ قلوبهم على نباتاتهم، لا سيما تلك التي أحضروها معهم من أوطانهم المفقودة! إنهم يعرفون في داخلهم أن المرء إذا أنقذ شجرة تين من عاصفة، فإنه ينقذ ذاكرة شخص ما”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تروي شخصية “التينة” عن الرعيل الأول من المهاجرين كنوع من الكائنات، قائم بذاته لتعكس القلق الذي يعيشونه خوفاً من العنصرية: “يُكثر هؤلاء من ارتداء لون البيج والرمادي والبني. أي تلك الألوان التي لا تلفت الانتباه. الألوان التي تهمس ولا تصرخ أبداً. وهنا نرى التشابه بين إشكالية من يفقدون صوتهم ممن يعيشون في الهامش في كتابها “كيف نحافظ على سلامة عقولنا في عصر منقسم”، كما لو أنه تكثيف لغياب صوتهم أو للغة الهمس التي بالكاد يلجؤون إليها، عبر ثيابهم أو تصرفاتهم. “حين تجد الواحد منهم يتحرك على نحو أخرق، فلا يكون على طبيعته أبداً”. أو حين “يشعر هؤلاء بالامتنان للفرص التي منحتهم الحياة إياها – في بلاد الهجرة – لكنهم موصومون أيضاً بما انتزعته منهم. فهم دائماً خارج المكان – كما إدوارد سعيد- مفصولون عن الآخرين بتجربة مسكوت عنها، كالناجين من حادث سيارة”.

الكاتبة المتشائلة

تبدو أليف شافاك قلقة لكنها على جري إميل حبيبي متشائلة في كتابها “كيف نحافظ على سلامة عقولنا في عصر منقسم”. هي تعتقد أن عدم الإفراط في التشاؤم يمكن أن يزيد من الدافعية نحو التغيير، وأن ثمة بذرة من التفاؤل ممكن أن نجدها في القصص المسكوت عنها لعذابات البشر. فهي تقر كروائية في نهاية كتابها هذا “حاجتنا إلى المعرفة وقراءة الكتب، وإلى التحليلات المعمقة، والصحافة الاستقصائية، من غير أن نغفل الحكمة. تلك التي تربط بين العقل والقلب، وتفعّل الذكاء العاطفي، وتزيد من التعاطف مع الآخرين. لهذا السبب نحتاج إلى القصص ومن يسردون القصص”. هذا عوض فائض معلومات لا يوفر لنا ما يحدث بما فيه الكفاية، لأنه يقدم معلومات غالباً ما تكون سطحية أو مشوهة أو خاطئة ومنصات رقمية لا تساعدنا بل تزيد من الكراهية والانقسام والوحدة. لذلك ترى أن الخروج من النفق يحتاج إلى جهد جدي ومكثف لأننا نعرف جميعاً “أننا نعيش في أوقات صعبة، وهناك الكثير مما نحتاج للتعامل معه، على مستوى الفرد والمجتمع. لكن لو تخيلنا لحظة عالماً من غير كتب، ومن دون سرد للقصص، ومن دون تعاطف، فلن نجد أمامنا سوى عالم أكثر وحدة وانقساماً”.

تخاطب أليف شافاك جمهوراً -غير مرئي- هو بالغالب قراؤها بصفتها روائية: “أؤمن بما في القصص من قوة تغيير تقربنا بعضنا من بعض، وتوسع مداركنا، وتطلق إمكاناتنا الحقيقية في التعاطف والحكمة. ففي دوامة الأخبار التي تحيط بنا، من تفاوت وظلم وانحراف جارف عن سبل التعايش والتنوع والاختلاف. من السهل أن نشعر بأن القصة التي نعيشها هي ليست القصة التي اخترناها. أن الأحداث التي نمر بها تشوه الحكاية. وأن رؤيتنا للحقيقة والواقع تدوس عليها أقدام الآخرين، أولئك الذين لهم صوت أعلى وقوة أكبر. وهذا النشاز المتصاعد قد يبدو مثل حالة جنون أو فقدان للعقل، إنكاراً لكرامتنا وإنسانيتنا. لذا من الطبيعي أن نبحث عن مجموعة توافقنا، تعزز قيمنا الجوهرية وأهدافنا الأساسية، وتقربنا من القصص التي نود أن نسمعها ونعلي من أهميتها. قد تكون هذه بداية جيدة، لكنها لا يمكن أن تكون الوجهة النهائية كاملة”.

لئن اختلف هذان النصان في طبيعة الجنس الأدبي، لكنهما يلتقيان ببراعة التعبير عن هموم يشتركان بها، وإن اختلفت أساليب التعبير بينهما. ففي كتابها “كيف نحافظ على سلامة عقولنا في عصر منقسم” تتمكن شافاك من رصد القلق الفردي الذي يثيره العصر في القلق الجمعي والعكس صحيح، ولكن بلغة مبسطة ورشيقة على خلفية معرفية عميقة وواسعة. أما في روايتها “جزيرة الأشجار المفقودة” فتثير فينا شغف الإثارة والتشويق ورؤية أنفسنا في تلافيف حيوات الشخوص حتى لو كنا أشجاراً، نفرح ونتألم ونتعاطف مشحونة بمعرفة معمقة وبحث. وهذا ما تستند إليه أليف شافاك في رواياتها جميعاً من غير أن تثقل كاهل السرد أو تقلل من رشاقة اللغة وشاعريتها أو تقلل من التشويق ومتعة القراءة.