Home سياسة أندريه موروا يؤرخ للآخرين وكأنه يكتب سيرته الخاصة

أندريه موروا يؤرخ للآخرين وكأنه يكتب سيرته الخاصة

23
0

ربما لم يعرف تاريخ الأدب الفرنسي في القرن الـ20 كاتباً وضع كل أدبه وموهبـته الكتابية في خدمة مبدأ “المصالحة” بقدر ما فعل أندريه موروا، الذي كان من أكثر الكتاب الفرنسيين خصوبة مع أنه يبدو اليوم شبه منسي في حياة ثقافية لم يعد يربطها كثير بمبدأ المصالحة.

والحال أن أندريه موروا دفع مفهوم المصالحة في حياته بعيداً، إلى درجة أنه ما إن بدأ حياته الأدبية وهو بعد هاو في شرخ الشباب حتى اختار لنفسه اسماً فرنسي النطق والدلالة بدلاً من اسمه الأصلي اليهودي إيميل هرتزوغ.

عند بدايات موروا كانت النزعة المعادية للسامية في فرنسا مزدهرة وكانت هوية الكاتب – أو حتى المواطن – اليهودية تكفي لوضعه، بشكل أو بآخر، خارج سيرورة المجتمع وإجماعيته، ومن هنا غير الشاب اسمه إلى أندريه موروا الذي سيحمله طوال حياته ويصبح هو اسمه الرسمي.

بين الفرنسيين والإنجليز

 و”المصالحة” بدأت مع أندريه موروا باكراً، منذ خدم في الجيش الفرنسي كضابط ارتباط مع القوات البريطانية الحليفة، فوجد أن عليه أن يخلق وسيلة يفهم بها الفرنسيون الروح الإنجليزية ويفهم بها الإنجليز الروح الفرنسية وصولاً إلى التواصل بين الطرفين، فكانت روايته الأولى “صمت الكولونيل برامبل” التي كتبها وهو في الـ22 من عمره في عام 1917.

وحكم مبدأ المصالحة رواياته الأربع التالية، إذ نجده في عام 1926 يكتب رواية “برنار كيني” كتعبير عن ضرورة المصالحة بين العمال وأرباب العمل، وفي عام 1928 كتب “مناخات” كمحاولة للوصول إلى المصالحة بين نظرة المرأة والرجل إلى بعضهما بعضاً، بينما كتب في عام 1932 “دائرة العائلة” وهي محاولة للمصالحة بين الأجيال.

وبين الأميركيين والسوفيات

حس المصالحة هذا ظل موروا يحمله إلى النهاية، ومن هنا لم يكن من قبيل الصدفة أن يكون واحد من آخر كتبه كتاباً وضعه شراكة مع “خصمه الأيديولوجي”، الشيوعي لويس آراغون، نصفه يروي تاريخ الولايات المتحدة (كتبه موروا) ونصفه الآخر يروي تاريخ الاتحاد السوفياتي (كتبه، بالطبع، آراغون)، هذا الكتاب المزدوج صدر في عام 1962، وكان بالنسبة إلى موروا “محاولة كتابية للمصالحة بين تاريخي الدولتين العظميين”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وموروا الذي رحل عن عالمنا في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) 1967 أتيح له على أي حال أن يشهد بداية الانفراج بين تينك الدولتين مما أثلج صدره بالطبع.

شهرة من طريق الآخرين

غير أن شهرة أندريه موروا الأساسية لم تقم لا على رواياته التي راحت تصدر بزخم عجيب خلال النصف الأول من مساره الكتابي، ولا على تأريخه “الذاتي” للولايات المتحدة، ولكن على عديد من السير التي كتبها. فالحال أن أفضل ما بقي من أندريه موروا لقرائه هو تلك النصوص المعمقة التي تمتزج فيها الدراسة التاريخية بالدراسة السيكولوجية لترسم حيوات بعض أشهر الأدباء الذين اعتبرهم موروا على الدوام أساتذته الحقيقيين.

وموروا دخل في هذا الإطار بعد عذابات مرحلة الحرب العالمية الثانـية التي تلت صعود النازية، واضطرته إلى تمضية عديد من سنوات حياته في الولايات المتحدة كما في أفريقيا الشمالية، فانصرف كلياً تقريباً إلى ذلك النوع من الأدب الذي كان ثالث المجيدين فيه في القرن الـ20، إلى جانب ستيفان تسفايغ وإيميل لودفيغ، بل إنه فاقهما جودة في بعض الأحيان، فن كتابة السيرة.

والأدب يدين له بكتب في هذا المجال ترجمت إلى عديد من اللغات، من بينها “آريال أو حياة شيللي” (1923) و”حياة دزرائيلي” (1927)، وهما الكتابان اللذان خاض فيهما التجربة قبل أن يغوص في لعبة السيرة حتى النهاية، فكان نجاحه مشجعاً له على الاستمرار، فتوالت السير من “رينيه أو حياة شاتوبريان” إلى “دون جوان أو حياة بايرون” (1952)، ثم “ليليا أو حيـــاة جورج صاند” و”أولمبيا أو حـــياة فكــــتور هوغو” (1953) وهو كتاب أتبعه بكتاب عن “آل دوماس الثلاثة” وثان عن حياة بلزاك وثالث عن حياة السير ألكسندر فلمنغ مكتشف البنسلين.

صناعة الأقمشة مدرسة في الكتابة

والحال أن أندريه موروا صاغ تلك السير بنفس العناية التي كان يصيغ بها صناعة الأقمشة الدقيقة في مصنع والده عند بداياته هو الذي قبل نيله شهادة الفلسفة وانخراطه في الأدب كان قد بدأ عاملاً في مصنع أبيه.

سيرة حياته، على أي حال، كتبها موروا في عام 1953 تحت عنوان لافت هو “صورة لصديق كان اسمه أنا” وهو في هذا الكتاب أبدى من التواطؤ ومن المصالحة مع الذات ما أعاد الأذهان إلى أسلوبه التصالحي الذي لم يفارقه أبداً على أي حال.

 

 

وبقي أن نذكر أخيراً هنا أن عديداً من كتب أندريه موروا قد ترجم إلى العربية، ولا سيما عديد من السير التي كتبها، والتي نشر بعضها في العربية وفي بعض الأحيان من دون أن يحمل اسم المؤلف، وذلك تبعاً للطريقة التي كانت متبعة في عالم النشر باللغة العربية حيث كان ثمة دائماً ما يوحي بأن الكتاب المعني قد يكون من تأليف مترجمه لا من تأليف ذلك الكاتب الفرنسي الذي قد يمضي سنوات من حياته وهو منكب على تأليف كتابه، ساهراً على دقة معلوماته وحسن أسلوبه، فتكون النتيجة أن القارئ العربي يقرأ الكتاب معتقداً أن مترجمه إلى لغة الضاد هو مؤلفه، من ثم لا يخسر المؤلف الحقيقي فقط حقوقه المادية التي لن يرى أثراً لها بل حتى حقوقه المعنوية بوصفه صاحب الكتاب الحقيقي!

نظريات في كتابة خاصة

مهما يكن لا بد من أن نذكر هنا أن أندريه موروا، الذي قد يحدث كثيراً أن يخلط القراء بينه وبين أندريه مالرو معاصره تقريباً، لم يكتف بكتابة كل تلك السير التي كرس لها لغته الأدبية الجزلة ودأبه الإبداعي، بل إنه وضع بالتوازي مع ذلك كتاباً في فن كتابة السيرة جعله نوعاً من استعراض عملي لهذا الفن الذي كان – وكما أشرنا – من كبار متقنيه والخائضين غماره.

وهو هنا في هذا النص الذي لم يتجاوز الـ100 صفحة ربما يكون من أوائل الذين “رفضوا” مبدأ الموضوعية المطلقة في كتابة السيرة، معلناً ولو بصورة مواربة أن ليس من الضروري “بعد كل شيء أن تأتي السيرة المكتوبة حافلة بموضوعية صائبة”.

فـ”كاتب السيرة ليس عليه أن يكون مجرد آلة تنسخ ما جمعه عن حياة المبدع الذي يترجم سيرة حياته”، معلناً أن ثمة باحثين قد تكون تلك مهمتهم وليس عليهم أن يتدخلوا كثيراً في ما يكتبون، ولكن حين يكون كاتب السيرة مبدعاً بدوره، أي يكون هو الآخر أديباً لا يقل شأنه في هذا المجال الإبداعي عن شأن ذاك الذي يكتب سيرته فيحق له أن يكون تدخله جزءاً أساسياً من السيرة المكتوبة.

 

 

وفي تلك الحال، وهي الحال التي يتعين أن تكون هي الحال الطبيعية على أية حال، قد يكون منطقياً أن يخلط كاتب السيرة أفكاره وتطلعاته بما يكتشفه لدى صاحب السيرة خلال اشتغاله على سيرته. وهنا يضيف موروا تلك النظرية العامة التي كثيراً ما بدت عزيزة عليه، وهي أن الأديب الحقيقي إنما هو ذاك الذي “لا يكتب في نهاية الأمر إلا عن ذاته مهما كانت الفوارق شاسعة بين تاريخه الخاص وتاريخ صاحب السيرة.”

الآخر وكتابة الذات

ما بين هذا وذاك نرى موروا يطبق – بل حتى ينظر لتطبيقه هذا – يطبق على السير التي يكتبها نظريته في أن الكاتب الحقيقي لا يكتب في نهاية الأمر إلا عن ذاته، بحيث إن السيرة التي يكتبها لمبدع آخر تحمل تلك الازدواجية التي تجعلها وفي الوقت نفسه سيرة للذات في وقت تكون فيه وفي الوقت نفسه سيرة للآخر.

وهذا الأمر يعيدنا إلى مبدأ “المصالحة” الذي افتتحنا به كلامنا هنا، بمعنى أن المصالحة التي يشتغل عليها أندريه موروا في نصوصه إنما هي قبل أي شيء آخر مصالحة بين الكاتب والمكتوب عنه. مصالحة هي التي تصنع قوة تلك الكتب التي وضعها موروا عن مبدعين سابقين لا شك أن القراء تعاملوا معها تعاملهم مع رواياته الفذة، التي تبدو في نهاية الأمر أشبه بأن تكون سيراً لأناس حقيقيين! وربما كمنت هنا قوته ككاتب ومؤرخ حقيقي حتى وإن كان منسياً بعض الشيء اليوم.