Home سياسة صمويل بيبس كتب 10 سنوات حافلة من التاريخ الإنجليزي

صمويل بيبس كتب 10 سنوات حافلة من التاريخ الإنجليزي

9
0

لم يكن ثرياً ولا من علية القوم ومع ذلك وصل صمويل بيبس (1633 – 1703) إلى مراكز عليا في السياسة والمجتمع الإنجليزيين. ولم تكن الكتابة لا هوايته ولا حرفته ومع ذلك كتب تلك اليوميات التي يعتبرها أبناء جلدته الإنجليز أعظم يوميات كتبت في ذلك الزمن.

كما أنه لم يكن ليفقه شيئاً من شؤون البحر وأساطيله والملاحة فيه ومع ذلك يعتبر حتى اليوم المؤسس الحقيقي للملاحة البحرية الإنجليزية التي عاشت حقب مجد لا تدانيها أية حقب مماثلة، مدنياً وعسكرياً، في تاريخ أي شعب من الشعوب.

كان بيبس فخراً قومياً ومؤرخاً لمراحل عدة من تاريخ بلاده، ومع ذلك لا تطاول يومياته سوى 10 سنوات دأب خلالها على التدوين اليومي لكل ما يعيشه أو يسمع به من أحداث. وكان من حظه أن تلك الأحداث كانت كثيرة ومتشعبة خلال ذلك العقد العجيب، بين 1660 و1669 كما سنرى.

أحداث تحت الطلب

لقد شهد ذلك العقد صعود وانهيار آل تيودور والطاعون الذي ضرب البلاد وخلف عشرات ألوف القتلى وآيات الحريق والدمار. وشهد ثورة كرومويل وتنازل جاك الثاني عن العرش وإعدام تشارلز الأول وتتويج الثاني وإعادة تكوين الأسطول البحري.

وكل هذه الأحداث سجلها بيبس في أوراقه التي دونها بتؤدة واجتهاد على رغم كل ما كان يدور من حوله، وهو الذي كان يشغل مكانة، بل أكثر من مكانة تؤهله لأن يكون في موقع خطر دائم، لكنه نفد بجلده وتقبله الإنجليز ليس فقط كرجل سياسة وحرب وإنما كرجل فكر أيضاً جاعلين ليومياته مكانة في هذا المجال تكاد تضاهي المكانة التي ستشغلها لاحقاً في مجالها السيرة التي كتبها جيمس بوزويل لصموئيل جونسون! ويبقى من ذلك كله لغز يضيع الباحثون فيه، كيف قيض لرجل ذي أصل شديد التواضع أن يحقق ذلك كله؟

الحقيقة أن صمويل بيبس ولد في بيئة متواضعة إلى حد لافت، فلم يكن أبوه سوى خياط فقير فيما تحدرت أمه من أسرة جزار متواضع أيضاً. صحيح أن عماً لصمويل كان عضواً في البرلمان لكنه بدوره كان عضواً شديد التواضع، فكيف وصل بيبس إلى ما وصل إليه من مكانة وثقافة؟ بل كيف تمكن من أن يتجاوز سنوات كرومويل الذي شغل تحت حكمه وظيفة في وزارة البحرية فحافظ عليها بل طور مكانته فيها من دون أن يبدو أنه قد ساند الثورة الكرومويلية أو حتى أيدها ولو مواربة؟

كلها أسئلة لم يجب لا تاريخه الشخصي عنها ولا تاريخ إنجلترا. كل ما في الأمر أن يومياته اكتشفت وطبعت وقرئت لتتحدث عن شخص عصامي عرف كيف يستمد من وعيه وذكائه أسلحة مكنته من تحقيق ما حقق.

حماية لا تكفي

مهما يكن لا بد من أن نشير دائماً إلى أن بيبس قد تلقى في بداية شبابه دروساً جامعية في مادة الحقوق وربما بفضل قريبه النائب الذي قدم له تلك الحماية التي أوصلته إلى أن يعين في وزارة البحرية باكراً، وبعد أن كان شهد إعدام الملك وهو في الـ16 علمه ذلك درساً في الفطنة وحني الرأس حين تمر العاصفة.

بل علمته كذلك درساً لن ينساه أبداً ونجده ماثلاً في يومياته، كل شيء تسعى إلى تحقيقه، ركز عليه جهودك كلها ولا تتركه نهباً للصدف أو المفاجآت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكان ذلك أول ما طبقه حين أسهم في إعادة بناء الأسطول من خلال وظيفته في وزارة البحرية، وظل يتابعه حتى حين سيقع لاحقاً ضحية المناورات والمؤامرات التي ستوقف تدوينه يومياته مكتفياً بوضع نفسه في خدمة الكبار ودائماً بكل إخلاص وأمانة.

ولئن كان من المعروف أن “اليوميات” لم تكن الكتاب الوحيد الذي وضعه، وهو الذي تدين له البحرية الإنجليزية بواحد من أهم وأقدم الكتب التي روت تاريخها، “مذكرات البحرية”، فمن المعروف أن تلك اليوميات تصف كذلك السنوات الصعبة التي عاشها ذلك البلد ولا سيما منها سنوات الطاعون.

والغريب أنها كتبت بلغة تنم عن أن ثمة قلماً بالغ الرشاقة ورصداً بالغ الدقة في خلفية ذلك كله.

لغة مشفرة

ومع ذلك يجب ألا يغرب عن بالنا أبداً أن بيبس لم يكتب نصه بلغة إنجليزية واضحة ومفهومة، بل “كتبه” بلغة مشفرة قريبة جداً من لغة “الإملاء الستينوغرافي” بحيث إن الأمر قد احتاج إلى سنوات طويلة قبل أن يكتشف النص المؤلف، في نهاية الأمر، من أكثر من مليون كلمة، ويعاد تفكيكه وينشر بين العامين 1825 و1879 أي بعد عقود من رحيل بيبس، مما يدل طبعاً على أنه إنما كان يكتبه لنفسه لا للآخرين!

ولعل ذلك كان يشكل جزءاً من حذره الأسطوري علماً أن مؤرخي سيرته يفيدوننا بأنه لئن كان قد توقف عن تدوين اليوميات ذات لحظة غير متوقعة، فمرد ذلك إلى كونه قد أصيب بعد سنوات التدوين العشر بقصر في النظر جعله يخشى فقدان ذلك النظر ويتوقف عن نشاطه التدويني!

 

 

وهو اكتفى بذلك بسرد الأحداث التي مرت بين العامين 1660 و1669 كما أشرنا مع إطلالات على سنوات قليلة قبلها كان يجمل أحداثها كنوع من توضيح ما سيحصل خلال سنوات نشاطه المكثف. أما بعد ذلك فلا شيء وكأنه نسي الحكاية كلها.

ومهما يكن من أمر، فمن الواضح أن ما تعبر عنه تلك الكلمات البالغة مليون كلمة يكفي لوضع القارئ في قلب الحياة الإنجليزية كما أسست خلال تلك المرحلة. فلئن كان بيبس قد تحدث كثيراً عن ذاته وعما فعله خلال ذلك العقد الحاسم، ولكن دائماً من دون أن يبدو عليه أي قدر من المبالغة في الحديث عن دوره، فإنه في الوقت نفسه عرف كيف يطبع كتابته بموضوعية مدهشة ولا سيما في رسمه بورتريهات للآخرين والتفاصيل التي تناول بها أحداثاً، كان من شأنها أن تبدو بأقلام أخرى غير ذات أهمية على الإطلاق.

بين الثقافة والأحداث الكبرى

في المقابل تبدو مدهشة تلك الصفحات التي يصف فيها بيبس الطاعون الذي أصاب لندن وحرائقها، من دون أن يفوته الدخول المفاجئ في تفاصيل الحياة الفنية، الموسيقية والمسرحية وفي مجال الفن التشكيلي التي عايشها في لندن وما جاورها خلال تلك الحقب نفسها.

ولعل اللافت هنا هو أن بيبس ندر أن تحدث عن شيء من كل ذلك مكتفياً بأن ينقل إلى قارئه ما روي له في شأنه. لقد كان كل ما يتحدث عنه إنما يطلع بين يديه حديث شاهد العيان متفرساً في الأحداث عن قرب. فهل سيدهشنا بعد ذلك أن نذكر أن معظم المؤرخين السياسيين والاجتماعيين الذين سيدونون تاريخ إنجلترا خلال الحقب التالية، بمن فيهم الأكثر جدية وموضوعية، سيعتمدون “يوميات صمويل بيبس” مرجعاً أساسياً لهم؟

وبعد هذا كله لا بد من أن نعود هنا إلى سؤالنا الأول حول تلك القوة الكتابية التي مكنت صمويل بيبس من أن يحقق تلك “الأعجوبة التاريخية الصغيرة” وهو الذي لم يتدرب على الكتابة أو يدرس التاريخ في أية لحظة من لحظات حياته. بل أكثر من هذا: هو الذي لم يكتب نصه أصلاً كي يقرأه أحد سواه!

ولنفكر هنا على أية حال بكم أن غرابة هذين السؤالين ستبدو أكثر مثاراً للدهشة حين نقرأ الوصف الدقيق والوافي الذي يكرسه الكاتب للأحداث التي يتحدث عنها – ونفكر هنا بخاصة، على سبيل المثال لا الحصر – بانتشار وباء الطاعون في لندن وجوارها عام 1665 ليتلوه حريق لندن الكبير الذي نتج منه في العام التالي 1666 فنلاحظ أنه مكتوب بلغة صحافية قد تبدو لنا اليوم شديدة الحداثة حتى في هيكلها كتحقيق صحافي.

هنا نتساءل، كيف في نهاية الأمر تبدى ذلك كله ممكناً؟ وكيف كان ممكناً ذلك المزج الذي عرف صمويل بيبس كيف يقيمه بين توصيفه حياته الشخصية وتوقفه عند الحياة العامة، بل حتى أحياناً عند الأحداث الدولية الموازية، في نص بالغ الطول لم يكتب أصلاً، وعلى أية حال ليقرأه أحد؟