Home سياسة “قوم يابا” سيرة الفلسطيني المعذب برؤية قاسم اسطنبولي

“قوم يابا” سيرة الفلسطيني المعذب برؤية قاسم اسطنبولي

13
0

عُرف الممثل والمخرج اللبناني قاسم اسطنبولي بجهوده المثابرة على إحياء المسرح الوطني اللبناني. فعلى مدار 30 سنة خفتت الحركة المسرحية في الجنوب اللبناني وبعض مناطق الأطراف، خصوصاً سينما الحمرا في مدينة صور التي شهدت في السابق حركات فنية ثقافية نشطة لأبرز الأسماء الفنية اللبنانية والعربية. كان لقاسم اسطنبولي الدور الأكبر في إحياء هذه السينما وغيرها من الدور والمسارح وترميمها وبثّ الحياة فيها.

يطلّ اسطنبولي اليوم من خلال عرض مسرحي بعنوان “قوم يابا” مسرحية بدأ عرضُها عام 2008 إبان العدوان على غزة، حين كان اسطنبولي تلميذاً للدراسات المسرحية في الجامعة اللبنانية. بدأت العروض في الجامعة وفي الشوارع ضمن فضاء مفتوح. تطور هذا العرض ليجسد موقفاً من القضية الإنسانية وناقلاً لها ومعبراً عنها بأسلوب تجسيدي حكائي.

المسرحية كتبها الفلسطيني سلمان ناطور والسينوغرافيا لآنا سندريرو آلفريز، ومن خلالها يقدم اسطنبولي عرضاً مونودرامياً عبر سلسلة من الحكايات الموثقة على ألسنة أشخاص فلسطينيين من أجيال مختلفة، تعكس حكاياتهم مآسي الشعب الفلسطيني ورؤيته منذ ما قبل 1948 حتى اليوم، والقضية ببعدها الإنساني وما تجسده في الضمير والعاطفة العربية والعالمية.

مونودراما العذاب

العمل المونودرامي ينطلق من الحرب ويتخذ منها مرجعيّته ودعامة سرديته، شخصيات مختلفة وحكايات أيضاً ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتفاعلات الجمهور معها. الحكايات المعروضة وكأنها مسلسل مستمر مقرون بالأمل بالعودة إلى الأرض، قد تكون خلاصة العرض أو ركيزته الأساسية، إضافة إلى السرد الذي يحتل هامشاً مهماً منه.

العرض الذي تم تقديمه على خشبة مسرح المدينة في بيروت، يختلف بعض الشيء عن عرض العام 2008،  وهو اختلاف متعلق بتطور تفاصيل الحرب واختلاف موازين القوى والقدرة التي يظهرها مقاتلو الشعب الفلسطيني. تفاصيل كثيرة تختلف وتتغير ولكن يبقى السياق نفسه والمغزى الذي يبرزه اسطنبولي نفسه. تأريخ للحكاية وإطالة مكوثها في ذهن المتلقي من خلال استدرار أكبر كمية من الصور العاطفية والحكايات المؤلمة والحقيقية التي جرت في الحرب الهمجية المستمرة على أهل غزة.

تبدأ الحكاية لحظة دخول الأب إلى المسرح حاملاً شنطة سفره وكوفيته وعصاه، يرافقه في دخوله صوت موال فلسطيني للعريس عند الحلاق، مزيج من الندب والفرح في الموال يضطر السامع للتركيز بدقة فيما يسمعه. جولة على المسرح، ويبدأ بالمناداة:” بياع موز من أريحا/ في عنا زعتر من يافا/ عنا زيتون من جنين/ عنا صابون من نابلس…”. يفتح الأب الحقيبة ويخرج منها ولده ويضعه جانباً ليكون محوراً في تقديم العمل وجزءاً من الخطاب، فهو الذي سيتلقى كافة النداءات من دون أي جواب.

الولد الذي صار قرينة الحرب هو ووالده وأجداده، يجسد معاناة الفلسطينيين. كيف لا وحياتهم سجلٌ يختصره من ولد إبان نكبة 1948، ودخل المدرسة إبان حرب السويس، الثانوية إبان حرب يونيو (حزيران)، تزوج في حرب أكتوبر، رزق بولد في حرب الليطاني، توفي جده في حرب الخليج… سجل من الحروب يرويها الوالد والولد يسمع ولا جواب.

لم يرد الوالد أن يصدم الجمهور بموت الطفل، نداءات عديدة كانت تتتالى “قوم يابا”، “محمد يابا قوم”، ربما ليوحي للجمهور بأنه ما زال حياً. شيء من الإنكار بقي يرافق الوالد حتى نهاية العرض، فالوجع فاق قدرته على التحمل، ورغم ذلك بقي واقفاً ويتحدث. يتدرج في حكايته من الإيجاب إلى السلب، من الأقل إلى الأكثر وجعاً. من “الزيتون و الزعتر” وصولاً إلى “أرضي مش للبيع، ما في خبز، ما في امرأة، راح الولد”. ببساطة نحن أمام تصوير حاد لحياة الفلسطيني نقله الوالد ببراعة تامة. الفلسطيني الذي تبقى نظرته محايدة لحين وصول الكاميرا لتصوره، وكأنه يريد أن يبرز نفسه مبتسماً فتخرج الابتسامة حزينة.

في تفاعل اسطنبولي مع الجمهور قدرة خاصة على جذبه طيلة العرض. المرات القليلة التي ابتسم فيها كانت لحظة صرخ طفل من الحضور للباص القادم ليأخد الولد الشهيد إلى المدرسة “بيب بيب”.

هذه هي صورة الفلسطيني التي قدمها عرض “قوم يابا” الذي يقدس المرأة ويعشق الطفل بوصفه مشروع ثورة. سيرة واحدة للفلسطيني تتكرر على لسان الراوي أو المؤدي أو “المسرحجي”، بطرق ومشاهد متنوعة. أفكار تأخذ المشاهد إلى حالات شعورية تنقل صورة الفلسطيني البعيد الذي يملأ المكان لحظة العرض، رغم أنه بعيد ورغم أن من ينقل صورته ذو ملامح معروفة وهوية وجسد معروفين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا حيادية في “قوم يابا”. عليك أن تخرج محملاً بطاقة جسدية، ودموع تحملها معك، على ما يرويه، وتبثها في الأرجاء. قاسم اسطنبولي حكاء من الطراز الأول بلكنة فلسطينية محببة، وبترابط شحيح بين أفكاره وقصصه التي يجمعها خيط واحد وهمّ واحد: القضية. في “قوم يابا” دعوة لإيقاظ الابن الشهيد بوصفه جرس إندار لنا نحن علنا نسيقظ ونلتفت إلى هدا الشعب. الابن هو ممثل للشعب بلا أي ذكريات سعيدة، وكأن هذا الشعب سليب الذكريات السعيدة، وكل سجله حافل بما يؤلم وينغص وجوده بأكمله.

هذه هي سيرة الفلسطيني التي يرويها عرض “قوم يابا” متنقلاً من حال إلى أخرى، ويبقى في الوقت ذاته على حاله المعهودة الواحدة. الفلسطيني في تكاثره ووجوده واستغاثاته الدائمة التي تسبقه إلى العالم. استغاثات صاغها اسطنبولي في قالب كثير العواطف والحركة والصراخ بلا أي تصوّر مسبق عن الحلم الذي يريده أو يصبو إليه، حلم التحرر على وجه الدقة.

 الفلسطيني ووجهه، وجه يتعدى السرد والحكاية والمسرح والسكيتش ليصير قوة صارخة وصامتة في مواجهة العنف المحيط بها. العرض المقتبس من حادثة محمد الدرة الشهيرة، هو باختصار إبراز للمؤامرة التي يتعرض لها هدا الشعب بوصفها تراجيديا كونية أو ملحمة إنسانية في عرض مسرحي. يعرض يثبت أيضاً أن ليس لدى هذا الشعب خيار آخر سوى محبة الحياة وقوة الحياة.