Home سياسة رسوم منصور الهبر تجسد اليومي ببعده التأويلي

رسوم منصور الهبر تجسد اليومي ببعده التأويلي

9
0

ينشط التشكيلي اللبناني منصور الهبر (1970) في الآونة الأخيرة بعروض خارج لبنان وآخرها معرض لسلسلة من رسومه في غاليري “إيس وست أتيليه” الذي انتقل حالياً إلى غاليري Dune Art Station دبي. المعرض لا يقام في غاليري بالمعنى الحرفي بل في مكان هو عبارة عن صالة وملتقى، تديرهما القيمتان نزهة عسيران جارودي وكارولين بن حاميدا.

هذه المرة يقدم الهبر 40 عملاً ورقياً هي عبارة عن رسوم وليست لوحات. تمتد فترة اشتغاله عليها من 2010 حتى 2023. فترة زمنية عمرها 13 سنة تسمح لنا بفهم سياقات الرسوم المعروضة وتجسد تنقلات الفنان بين الصفائح اللونية بوتيرة متباينة، وأحياناً متوترة. الشيء الأساس والأولي في هذه الرسوم هو أن الرسوم ليست من الذاكرة، وإنما هي رؤية إلى المشهد المباشر وتجسيد له. مشهد القهوة، امرأة على الكنبة، الأولاد في نزهة، مشهد المرأة العارية. ما يراه المتفرج هو سلسلة من المشاهد المأخوذة من أماكن محددة وفي زمن محدد.

يمكننا أن نرى أساليب عدة في صياغة الرسوم، تبدأ الرسمة بمرحلة التخطيط السريع، لاحقاً يدخل الأكريليك ومن ثم الباستيل، ويمكن أن يضيف الفنان في ما بعد الكولاج وما يرافقه من تهشيم وقص وخربشة مدروسة. هكذا تولد الرسمة خاماً ومن ثم تصب عليها الألوان. توجد اللوحة شبه سكيتش، قسم منها يولد بصفته سكيتش، والآخر يكتمل تباعاً. نحن هنا أمام رحلة لنقل تفاصيل اللوحة ومنعرجاتها إلى الرسمة الورقية، هناك تناص واضح بين لوحة الهبر ورسومه.

يرى الفنان المشهد ويؤوله في الوقت ذاته، وكأنه في صنعته هذه ينظر ويؤول بالكلمة، لا بل باللون والخطوط والرسم. وفي وقت يرى فيه ويرسم تجري عملية التأويل، إنه الرسم بالتأويل. في مشهد امرأة على الكنبة، يخط الجلسة بسرعة البرق وبتأويل فني، ومن ثم حين ينتهي، يضعها جانباً ثم يعود إليها ليضيف خامتها اللونية. هكذا يبرز الورق كمادة رئيسة لديها القدرة على استيعاب هذه الحركات وهذه الوتيرة في التنقل بين الرسم والمحو، اللصق والتمزيق اللذين يشكلان عصب أعمال الهبر الشخصية.

التنقل بين الرسوم الـ40 المعروضة يمكننا من رؤية هذا المزج الواضح بين الإشراق في اللون والغضب والاضطراب اللوني. قدرة عجيبة على ذاك المزيج بمقومات بسيطة. هناك كمية من الارتجال تصاحب الأعمال، بحيث نجده سمة أساسية في الشغل. ربما تكمن أهمية الارتجال في قوته وقدرته على أن يوقعك في “الخطأ” أو المختلف، لو صحت كلمة خطأ، فينجر الفنان وراءه غير آبه لتبعاته في الرسمة.

هناك توق كبير إلى الإيجاز وإلى الامتلاء من الفضاء الصامت ومن السكينة. بعض الرسوم تفتح العين على جزء من اللوحة غائب، كأن عمل الهبر لا يكتمل إلا في غيابه. ثنائيتان تسيران الأعمال: الحضور والغياب، وإلى جانب ذلك اللوحة وظلها. الشخوص المنظورة مثلاً لا تحترم قواعد المنظور، ربما لأن التصوير الذي يقدمه الفنان في رسمه ليس تصويراً تقليدياً. رسوم أخرى تعتمد على تمزيق أجزاء كثيرة منها، بحيث يبقي الفنان على ما يراه مناسباً من العمل. القطة والمرأة بقي منهما ما يجب أن يبقى، هناك مزج في آن واحد بين ما هو تصويري وما نزح إلى ما بعد التصوير، واصلاً إلى تخوم التجريد.

منذ البداية نجد أن ما نراه كرسمة، قادم من مكان محدد، وهذا أصعب من التخيل. ما الذي يمكن أن تقوله امرأة جالسة؟ المشهد عادي جداً، الخيال يفتح المجال أمام الافتعال بشكل أكبر، بينما الواقع هو أن يرى الفنان ويذهب إلى التأويل والأسلبة، وذلك أصعب بكثير من التصوير بالخيال. الواقع أغنى من الخيال بالتفاصيل، من ثم في الواقع يصبح الهبر أمام تحد ماذا سيبقي وماذا سيحذف؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا يمكن أن نغفل أنها عملية لنقل الواقع مع تأويلاته. المشاهد الـ40 هي عبارة عن مشاهد بيد قناص يلتقط اللحظة، كأنه في لقطات، حتى لو تغيرت تفاصيل المشهد ووضعياته. الفنان يكمل بالرسم، يغير اللحن فقط ويرتجل. يتساءل المتفرج أمام الأعمال: أين الرسمة؟ في البياض أم في اللون؟ السؤال في لبه خلخلة، ربما الورق يفعل هذا الشيء، خلخلة للمعتاد، بالنظر إليه. كل هذا له علاقة باللحظة، اللحظة الهاربة، سرقة للحظة وتوقيعها وتأريخها، اللحظة ببعدها التراجيدي، وكأن كل شيء هباء وقبض ريح.

في رسوم منصور الهبر المعروضة ثمة حياة أبطالها هم الناس في سجن يومياتهم، فالرسوم هي نوع من انعتاق إلى خارج فضاء اللوحة المرسوم. هرب من الواقع أو وقت مستقطع بين شوطين. نشاهد من كثب التحفة اللونية في زوالها، في عمقها وداخلها الذي نكاد نراه. رسم وحركات تبدأ وتنتهي إلى خلاصات عديدة، بعضها مساحات فارغة بيضاء وأخرى تبقيعات وألوان فظة داكنة وحارة. الحرارة التي يراها الزائر جاذبة ومحيرة. ربما هي ما يميز تجربة الهبر وتدوينه السري لما هو يومي عابر، مهمش ونافل.