Home سياسة عودة عقلانيي القرنين الأخيرين إلى فكر مكيافيللي وأحيانا من حيث لم يكن...

عودة عقلانيي القرنين الأخيرين إلى فكر مكيافيللي وأحيانا من حيث لم يكن متوقعا

12
0

بعد كل شيء، كان من الأمور المتوقعة أن يعود الفكر السياسي العقلاني في القرنين الـ19 والـ20 إلى المفكر النهضوي الإيطالي نيكولا مكيافيللي ليستلهم، وفي مجالات عديدة، فكرانيته معيداً إليه اعتباراً كان صاحب “الأمير” قد فقده. وهو لم يفقده فقط، بل وجد نفسه أحياناً يعاني في مزابل تاريخ راح يصر على أن يبخسه كل قيمة ويعزو إليه كل ضلالة وانحراف، مؤكداً أنه إنما كتب أفكاره لكي يبرر للديكتاتوريين طغيانهم، جاعلاً من ذلك الطغيان محركاً للتاريخ وضرورة حتمية له، لقد ربط فكر مكيافيللي بكل صنوف المؤامرات والتحايل على البشر من دون أن يقف كثر ليتساءلوا في نهاية الأمر عما إذا كان المستشار السياسي الفلورنسي يدعو إلى ذلك حقاً، أم أنه إنما يشخص ما هو قائم بالفعل لا أكثر ولا أقل؟ ولسوف يكون من حسن حظ هذا المفكر أن قامت في الأزمنة الأخيرة قامات فكرية عرفت كيف تجيب على ذلك السؤال. وهكذا، مقابل فولتير الذي اعتبر فكر مكيافيللي “سماً قاتلاً”، وشكسبير الذي اعتبره “دموياً” وفردريك الثاني ملك بروسيا الذي نظر إلى صاحب “الأمير” نظرته إلى “وحش”، بل حتى في مقابل مفكرين أكثر حداثة مثل برتراند راسل الذي وصف “الأمير” بأنه “دليل عملي في خدمة العصابات”، وغيرهارد ريتر الذي اعتبره رائد الفكر الفاشي، وفريدريك مينيكي الذي وسع دائرة تأثير مكيافيللي ليعتبره مؤسس النازية، في مقابل هؤلاء جميعاً كان هناك إرنست كاسيرر الذي عزا إلى المفكر النهضوي دوره في تفادي غرق الإنسانية لزمن في “الكارثة التوتاليتارية”، ولكن كان هناك بشكل خاص المجدد الكبير في الفكر الماركسي أنطونيو غرامشي، الذي من أعماق زنزانة سجنه في إيطاليا كتب عن مكيافيللي بكونه “المدافع الحقيقي عن شعب كان يشعر بأنه ضمير له”.

 

من غرامشي إلى نيغري

والحقيقة أن موقف غرامشي كان ذا تأثير كبير ودفع كثراً يومها إلى إعادة النظر من موقفهم من المستشار السياسي لآل ميديشي، ولسوف يكون من أبرز أولئك الكثر، ماركسي آخر كان من غريب الأمور أنه هو أيضاً عمل على إعادة الاعتبار إلى صاحب “الأمير”، من أعماق زنزانة سجنه، هو الذي كان يعتبر نفسه تلميذاً لغرامشي وسائراً على خطاه لا سيما حين أودعته السلطات الإيطالية السجن، وبعد أستاذه بنصف قرن، بتهمة الإرهاب التي أنكرها هو دائماً وحتى بعد خروجه من السجن من ناحية بتدخل من الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، ومن ناحية ثانية، لأنه رشح نفسه من داخل سجنه للانتخابات النيابية، وحين فاز، صارت له تلك الحصانة التي تمنع سجنه، والمهم أن السنوات التي كان فيها نيغري نزيل السجن مكنته من إعادة النظر في مجمل ما كان يشكل فكرانيته اليسارية المتطرفة، وكانت آية ذلك ما حققه ثلاثة من فلاسفة “الحداثة” لديه من مكانة متجددة: سبينوزا ونيتشه ومكيافيللي. والحقيقة أننا ننسب هؤلاء الثلاثة إلى الحداثة متبعين في ذلك خطى وأفكار نيغري نفسه الذي قبل السجن لم يكن لديه في تراتبيته الفلسفية سوى كارل ماركس، وها هو الآن يوسع اهتماماته، ولئن كان ذلك التوسيع قد بدا طبيعياً بالنسبة إلى سبينوزا ونيتشه بعدما بدأ كثر من الماركسيين يتبنونهما، أتت المفاجأة من ناحية مكيافيللي، ولكن للتخفيف من حدتها كان هناك أنطونيو غرامشي طبعاً وغرامشي هو سيد الماركسيين الإيطاليين على أي حال.

بفعل قراءة متأنية

والواقع أن اهتمام غرامشي بمكيافيللي لن يبدو غريباً لدى قراءة متأنية، لا سيما في “دفاتر السجن” حيث وصل الكاتب السجين، ومؤسس ما سيسمى لاحقاً الشيوعية الأوروبية التي ستعطي أملاً ما بعيداً من التشدد الستاليني بل السوفياتي عموماً. في سنوات الـ70 والـ80 من القرن الـ20، وصل إلى حد استعارة تعبير “الأمير” ليسبغه حتى على الحزب الشيوعي معتبراً إياه “الأمير الصغير” في استعارة واضحة من مكيافيللي، ومن المؤكد أن هذا كان يعتمل في أفكار نيغري ما إن بارح سجنه حتى راح يشتغل جدياً على واحد من أبرز نتاجات مرحلته الجديدة، وكان بالتحديد كتاباً عن فكر مكيافيللي عنونه بـ”السلطة المكونة، دراسة في بدائل الحداثة”. وكان الكتاب مفاجئاً حقاً وربما يمكن اعتباره أعمق محاولة معاصرة لإعادة الاعتبار للمفكر النهضوي، بعيداً من كل “التجنيات” السابقة عليه. ومنذ البداية يقول لنا نيغري في هذا الكتاب إن مكيافيللي يغوص في مسألة السلطة المكونة في مجمل كتاباته ولكن، بخاصة، في كتابه “الأمير”، “وذلك بالتحديد لأن هذا الكتاب يشتغل أولاً وأخيراً على صياغة نظرية متكاملة حول تكون السلطة”، و”بالتالي، فإنه يعارض كل ما كان قد سبق للنظرية السياسية أن اقترحته في معرض بحثها في مجال الفكر السياسي من نظرية تتحدث عن السلطة بوصفها مشروعية سرمدية أو من تحليل يتطلع إلى أن يكون بحثاً في أشكال الحكومات”، وفي هذا السياق التقليدي الموروث عن الكتابات الأفلاطونية والأرسطية معاً. يتابع نيغري، “لم تبد مسألة تكون السلطة لتثير أي إشكالية على الإطلاق، لم تكن لتتحول إلى تساؤل بأي حال من الأحوال، وذلك بالتحديد لأنه لم يكن من الضروري للسلطة أن تتكون، بالنظر إلى أنها إنما تكون متأسسة سلفاً خارج حدود القدرة البشرية، فهي من طبيعة الأمور ولا تحتاج بالتالي إلى سبر لأساساتها، هي في الجينات المكونة للمدينة – الدولة نفسها، والمسيحية حين راحت تعالج مسألة السلطة بعد ذلك، لم تفعل أكثر من تأكيد هذا المنطق”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

رفض مكيافيللي

لكن مكيافيللي أتى، كما يخبرنا نيغري هنا، ليرفض تماماً “كل شكل من أشكال المشروعية التجاوزية، جاعلاً من تكون السلطة مسألة تخضع للدراسة وقضية عملية، كاشفاً عما في التقاليد التجاوزية من لا عقلانية ضارية”، ومن هنا، فإن نيغري يفيدنا بأن كتاب “الأمير” “لا يتكلم عن وجود مسبق وتجاوزي لأي منظومة حكم طبيعية، بل يخلقها”. إن الأمير الذي أعطى اسمه للكتاب، ليس كائناً خرافياً يحتفظ بسلطة آلت إليه وراثياً وبصورة طبيعية وكما كانت حالها وجوهرها منذ الأزل، بل يتمسك بسلطة يتعين عليه هو أن يعيد خلقها من جديد، “إن لم يقم هو بتثويرها جذرياً وتبديل العلاقات الاجتماعية في ركابها كي تتلاءم مع زمنه”.

باختصار، يخبرنا نيغري أن “كتاب الأمير ليس سوى بديل أنطولوجي عن كل ميتافيزيقية سلطوية”، ومن ناحية أخرى، واستكمالاً لهذه النظرة الجديدة، إنما الموروثة أصلاً وإلى حد ما، من غرامشي ينتقل نيغري من حديثه عن “الأمير” إلى حديث عن نص آخر لمكيافيللي هو “الخطابات” الذي يعتبره المؤلف الأساس الذي تناول فيه المفكر النهضوي المسألة الديمقراطية، ليقول لنا إنه في تلك الخطابات قد حلل الصراعات الطبقية بين الأغنياء والفقراء، وبشكل أكثر تحديداً “بين الممولين الفلورنسيين وعمال النسيج العاملين في خدمتهم”، وفي هذا السياق، يعتبر مكيافيللي، بحسب نيغري، أن تلك الصراعات هي المفتاح الذي يمكننا من قراءة كل أشكال تكون الحكومات الجمهورية، لكن هذا التأكيد لا يفوته هنا أن يعيد نيغري مرة أخرى إلى “الأمير” ليضيف مستطرداً أن هذا الكتاب، بدوره، يمكنه أن يقرأ على ضوء انتفاضات فقراء فلورنسا ضد أغنيائها، و”تحديداً كشكل من توصيف لحل لذلك الصراع أوصل إلى ولادة شكل جديد وراديكالي من أشكال الحكومات في ذلك الزمن”، ومن هذا الواقع، يصل نيغري إلى الاستنتاج بأن مكيافيللي يتموضع في نهاية الأمر وبشكل كلي، بين حتمية الوصول إلى مرحلة ثورية، من ناحية، ومن ناحية أخرى، بين مرحلة تحتم إعادة بناء ديمقراطي وشعبي يقوم على السيطرة على السلطة ومقدراتها. ويرى نيغري أن مكيافيللي لا يتوانى عن ذكر ذلك كله بأسمائه التي نعرفها اليوم، حتى وإن كان يعبر في لحظات عن ضروب ندم وخيبات متتالية “غير أن هذا كله يبقى ثانوي الأهمية مقارنة بحقيقة أن نصوص مكيافيللي في جوهرها تبرز كمنبع لتلك المخيلة السياسية التي لن يفوتنا أن نجدها لاحقاً لدى كل من سبينوزا وماركس كتعبير عن الطابع المطلق لفكرانية السلطة وهي تتكون”.