Home سياسة “البراغماتية” لويليام جيمس: فلسفة “شعبية” أميركية

“البراغماتية” لويليام جيمس: فلسفة “شعبية” أميركية

111
0

حتى وإن كانت الفلسفة الماركسية قد شغلت كبار المثقفين وصغارهم بأكثر مما شغلتهم أي فلسفة أخرى طوال القرن العشرين، فإن الشرائح المتعلمة التالية لأولئك تراتبياً، انشغلت أكثر خلال النصف الثاني من ذلك القرن نفسه، بفلسفة أخرى بات تعريفها يطبق على كل شيء ولا سيما في مجال الحديث عن ممارسات الحكم والاختيارات الاقتصادية بل حتى السلوكات الاجتماعية. وذلك حتى من دون أن تُفهم تلك الفلسفة تماماً. وعلى أية حال لم تكن الشرائح البسيطة من الناس في حاجة إلى التعمق في فهمها وفهم مدلولاتها. فهي فاتنة وكافية في حد ذاتها بالنسبة إلى الذين يبهرهم كل ما يصلهم من أميركا، ومرذولة مرفوضة من قبل الذين يريدون نبذ كل ما يصل إليهم من ذلك العالم الجديد والذي يتهمه متطرفو العالم القديم بأنه أفّاق لا فكر لديه ولا تاريخ. في أيام الحرب الباردة كانت القضية دعائية سياسية في أحسن أحوالها. ومن هنا صنفت “البراغماتية” – التي هي موضوع حديثنا هنا – بكونها توصيفاً لواقع، منشود أو مرفوض لا فرق، إلى درجة أن كثراً في منطقتنا كان يكفيهم أن يصفها واحد من كبار فلاسفة العرب من الجيل الليبرالي بأنها تعبير عن أن “الانتقال من الفلسفة التقليدية – واقعية كانت أم مثالية – إلى الفلسفة البراغماتية (…) هو ما يجعل من هذا الانتقال انتقالاً من الأمس إلى الغد” (زكي نجيب محمود في كتابه “حياة الفكر في العالم الجديد”)، ليكفيهم ذلك للحكم عليها. كما كفى كثراً من بينهم أن يصف مفكرون سياسيون أميركيون وتصف الصحافة الأميركية سياسات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بأنها “براغماتية” حتى يحكموا على الوصف أو الموصوف تبعاً لأهوائهم لا تبعاً لدلالاته الفكرية كما وضعها مؤسسوه!

نموذج الفيلسوف الأميركي

مهما يكن من أمر فإن الدكتور زكي نجيب محمود نفسه يقول لنا في فصل مسهب إنما دقيق العبارة واضح المعنى من فصول كتابه المذكور، إن تشارلز بيرس، المفكر الإنجليزي، كان هو الذي شق الطريق للوصول إلى هذه الفلسفة، لكن الباحث المصري يتوقف بعد ذلك أساساً عند قطبين آخرين من أقطاب هذا الفكر والنزعة التي نتجت منه: الأميركيين ويليام جيمس وجون ديوي. وويليام جيمس هو، على أي حال، واضع الكتاب الأهم والأوفى في التعبير عن هذه الفلسفة “الجديدة”، خصوصاً أنه هو الذي “ينظر إليه العالم على أنه نموذج الفيلسوف الأميركي، والعنوان الأبرز في عناوين الفلسفة الأميركية”. أما فلسفة ويليام جيمس وفق زكي نجيب محمود كما وفق العديد من دارسي حياته وأعماله الأميركيين على وجه الخصوص، فتتلخص في شكل جيد وحاسم في كتابه الأساس الذي يحمل هذا العنوان الطويل “البراغماتية: اسم جديد لبعض طرق التفكير العتيقة. قراءة شعبية في الفلسفة”، لكنه يعرف عادة بعنوانه المختصر “البراغماتية”. وهذا الكتاب صدر عام 1907، ضاماً سلسلة محاضرات كان جيمس ألقاها خلال العامين السابقين وعرض فيها هذه الفلسفة الجديدة، غير غاض الطرف عن أن زميله الإنجليزي تشارلز بيرس كان سبقه، جزئياً، إلى ذلك قبل عشرين عاماً، في مقاله الشهير: “كيف نجعل أفكارنا واضحة”. فالحقيقة هي أن بيرس كان أول “مبتدع” للبراغماتية في ذلك النص الذي حدد المبدأ الذي سيحوز شهرة واسعة منذ ذلك الحين وفحواه: إنه من أجل تطوير فكرة ما وفرضها، يتعين علينا أولاً أن نحدد السلوك الذي سنكون قادرين على استثارته.

فلسفة للحياة العملية

والحقيقة أن هذا المبدأ نفسه هو الذي استحوذ عليه ويليام جيمس بعد عقدين من السنين، ليجعله محور كتاباته الفلسفية، علماً أن بيرس كان هو الذي استخدم كلمة “براغماتيزم” للمرة الأولى مشتقاً المصطلح من كلمة “براغما” الإغريقية التي تعني العمل أو الفعل. ومنذ ذلك الحين دخل هذا المصطلح الحياة اليومية، تماماً كما دخل الحياة الفكرية… وفي الحالين كان له المحمول نفسه. أما اللذان نشراه في طول العالم وعرضه فكانا جون ديوي وويليام جيمس. ولا سيما هذا الأخير الذي راح يجول في العالم محاضراً، ناشراً دراساته، وفـي انطلاق دائم من مبدأ أكثر وضوحاً يقول إن ما من “منظومة فلسفية ظهرت حتى اليوم، تبدو قادرة على إرضائنا تماماً، طالما أن التجريبية تتسم بنزعة لا إنسانية ولا دينية، والعقلانية تهمل الطابع الملموس للعالم الحقيقي”. ومن هنا يرى جيمس أن “ما من نظرية من هذه النظريات يمكن النظر إليها على أنها صورة مطلقة للواقع المعيوش”. إنها كلها في رأيه “نظريات نفعية، وأشكال ذهنية تعبر عن التكيف مع الواقع، أكثر منها كشوفاً وأجوبة تأتي لتجيب عن الألغاز التي تضعها ألوهية الكون في دربنا”.

في متناول الإنسان

ومن هنا يرى ويليام جيمس أن “البراغماتية هي الفلسفة الوحيدة التي تضع نفسها في متناول الإنسان، ذلك أن سيرنا على درب المعرفة هو الذي يوجه، في كل خطوة من خطواتنا، القدر الغالب من تفاصيل حياتنا اليومية ومصالحنا وحاجاتنا”. ولهذا، “بدلاً من أن نأخذ كمعيار للحقيقة مبدأ ذهنياً أو عقلياً غير شخصي على الإطلاق”، ها هو ويليام جيمس يقترح علينا أن نتبنى فلسفة تلائم حاجاتنا وتطلعاتنا. وهنا – وتبعاً لمبادئ البراغماتية – لا يتعين علينا استبعاد أي فرضية إن كانت نتائجها ستتبدى مفيدة لحياتنا التي نعيشها، و”من هنا كذلك، فإنه، في مسرى نمط تفكيرنا، من المؤكد أن الحقيقي، مثل الصائب الذي لا يمكن على أية حال أن يكون ثمة غبار عليه من الناحيتين المنطقية والمبدئية، ليس سوى ذاك الذي يبدو ملائماً لنمط تحركنا وفعلنا وسلوكنا”. وفي هذا المعنى يرى ويليام جيمس أن “حقيقة فكرة ما، ليست خاصة من خصائص تلك الفكرة تكون منذ البداية موجودة في جذورها، وإنما هي حقيقة تكتسبها الفكرة لاحقاً: الفكرة “تصبح” حقيقية… وفي سيرورة معينة، لأنها تكتسب حقيقتها مما يحدث، من تضافر الوقائع العملية”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الفلسفة لخلق الواقع عملياً

وفي هذا الإطار يؤكد ويليام جيمس أن الفلسفة ليس من مهمتها “رصد ما هو حقيقي”، بل خلقه وإبداعه في شكل عملي. “إننا، يقول جيمس، نحصل على قطعة الرخام، لكننا نحن الذين ننحتها لنحولها تمثالاً”. ويقيناً إن في وسعنا أن نستنتج من هذا أن ويليام جيمس لم يكن ليرى في تاريخ الفلسفة سوى “صراع بين شتى الأمزجة الفردية” بدءاً بأكثرها “رهافة” (العقلية) وصولاً إلى الأكثر “همجية” (التجريبية). ومن هنا يبدو لنا من المنطقي أن يكون مؤرخو البراغماتية في القرن العشرين، سواء كانوا من أنصارها أو من منتقديها، رأوا فيها، بعد كل شيء “نزعة إنسانية تتنوع أطيافها بتنوع المثال الأعلى الحياتي الذي يدافع عنه كل فيلسوف من فلاسفتها”. أما لدى ويليام جيمس الذي نحن في صدد الحديث عن كتابه الذي اعتبر دائماً المدخل الرئيس لدراسة البراغماتية والدليل الأفضل والأبسط للتوغل في عوالمها، فإن البراغماتية، تتخذ – وفق تحليل ثاقب لبعض كاتبي سيرته – “شكل نزعة روحية دينامية وتطورية في شكل خاص”. أما مفكرنا العربي الراحل د. زكي نجيب محمود فيرى أن “ويليام جيمس إنما أراد أن يحتفظ لكل فرد إنساني بإرادته المستقلة لتقع عليه مسؤولية الخليقة”.

ابن عائلة من المبدعين

ويليام جيمس (1842- 1910) الذي كان ابناً للفيلسوف هنري جيمس، وشقيقاً بكراً للكاتب الروائي الأميركي الكبير المسمى بدوره هنري جيمس، متحدر من أسرة من مهاجرين إيرلنديين وأمضى طفولته، مثل أخيه، في سفر متواصل حول أوروبا، قطع سنوات دراسة مجدية ومعمقة في مدرسة هارفارد الطبية، قبل أن يبدأ في المشاركة في رحلات علمية واستكشافية قادته إلى البرازيل حيناً وإلى ألمانيا حيناً آخر. وهو منذ عام 1890 بدأ ينشر مؤلفاته تباعاً، وكان أهمها في البداية “التحليل النفسي” الذي كان فتحاً في مجاله قبل صدور أعمال فرويد. وهو أمضى بقية عمره في التأليف والتعليم. ومن بين أهم مؤلفاته التالية: “الصور المختلفة للتجربة الدينية” و ”إرادة الاعتقاد” و”مثل الحياة”.