Home سياسة عندما واجه بورخيس الفرنسيين للمرة الأولى

عندما واجه بورخيس الفرنسيين للمرة الأولى

114
0

عندما أدلى كاتب الأرجنتين الكبير جورج لويس بورخيس بأول حديث لافت وجدي وجهه إلى القراء الفرنسيين كان ذلك في عام 1973 بعد أعوام من صدور ثاني مجموعة قصصية له وهي “الألف” التي كانت قد سبقتها مترجمة إلى الفرنسية مجموعته الأولى “حكايات خيالية” قبل ذلك بـ10 أعوام بفضل جهود بذلها روجيه كايوا الذي يعزى إليه فضل كبير في تعريف الفرنسيين بآداب أميركا اللاتينية. قبل ذلك كان الفرنسيون يعرفون بعض كبار كتاب “الواقعية السحرية” من آستورياس إلى كاربانتييه بل حتى إلى البرازيلي جورج آمادو، لكنهم بالكاد كانوا يعرفون شيئاً عن الأدب الأرجنتيني الذي راح منذ ذلك الحين يصل إليهم على شكل زخات ويضعهم، لا سيما من طريق بورخيس نفسه كما من طريق مواطنه خوليو كورتاثار أمام لون جديد من الأدب شديد الغرائبية ويعلن جديداً في ذلك المجال.

ومن هنا فإن القراء الفرنسيين، كما الأوروبيين، اهتموا بالأعمال الأدبية بأكثر كثيراً مما اهتموا بكتابها. وهكذا على سبيل المثال استبقوا في أذهانهم من بورخيس كما لاحقاً من كورتاثار وغيره، غرائبية الأعمال وعمق دلالاتها، بالتالي كانت مفاجآتهم كبيرة حين قرأوا ذلك الحديث الذي أدلى به الكاتب الضرير إلى الباحث وكاتب السير الفرنسي سيرج براملي وأعلن فيه مثلاً أن الأدب الذي يكتبه أدب شديد الذاتية وليست غرائبيته سوى قناع، بل قال عن “الألف” تحديداً إن نصوصها لم تكتب إلا من أجل السخرية من ذاته، حيث يلعب دور دانتي، ومن بياتريس حبيبة دانتي ولكن خاصة من فرجيل رفيق صاحب “الكوميديا الإلهية” في رحلة البحث عن حبيبته.

“طلعوا جيران!”

والحقيقة أن براملي كان أول المندهشين حين أخبره بورخيس في ذلك الحوار الكبير الأول الذي خص به قراء لغة موليير، أن شخصية فرجيل في “الألف” لم يستلهمها من صاحب ملحمة “الإنيادة” بل من رجل أقرب إلى الحمق يعيش غير بعيد من منزل والدته، أي والدة بورخيس، ويعتبر من معارفها المقربين ويدعى آرجنتينو دانييري. وأردف بورخيس يقول إنه لم يكتب نصوص “الألف” إلا لرغبته في أن يكتب عن ذلك الجار الغريب الأطوار والمرتاح في حمقه هو الذي يكاد يلتقيه يومياً حيث يقطنان في جادة غاريه وسط بيونس آيريس. “لقد شعرت ما إن واتتني فكرة أن أكتب ذلك النص الذي جعلت له فيه ملامح فرجيل، أن من المحتم بالتالي أن أبقي على اسم بياتريس اسماً للبطلة وأن أعير ملامحي لدانتي وبهذا تكتمل صورة راحت تولد لدي بالتدريج تتحول جادة غاري بموجبها إلى جحيم كوميديا دانتي الإلهية…”. بالنسبة إلى بورخيس بدت اللعبة مضحكة لا أكثر. بدت لعبة مسلية كان في البداية لا يعتقد أبداً أن نتيجتها ستكون ليس كتاب “الألف” فقط بل كل ذلك المتن الأدبي الذي أبدعه، ودائماً نصف/ مازح – نصف/ جاد، طوال الأعوام الـ50 التالية من حياته.

من أين أتى أبطاله؟

صحيح أن ما قاله بورخيس يومها لقرائه الفرنسيين للمرة الأولى لم يكن جديداً بالنسبة إلى الذين كان قد سبق لهم أن تعرفوا على “الألف”، لكنه تبدى جديداً حين ربطه بورخيس بنظرة جديدة ألقاها على أدبه مرات ومرات بعد ذلك. نظرة يمكن تلخيصها في قوله مبتسماً وهو “ينظر” إلى محاوره الفرنسي براملي: “مهما يكن من أمر فسوف أقول لك هنا شيئاً لا أعتقد أنك تعرفه من قبل: تماماً كما استخدمت آرجنتينو دانييري لرسم شخصة فرجيل، كذلك استخدمت صفات بل ملامح وسلوكيات العشرات من الشخصيات الحقيقية، سواء كنت أعرفها حقيقة أو أعرف عنها ما يكفيني لإعادة خلقها أدبياً. ويعني هذا أن في خلفية كل شخص من شخوص نصوصي شخصاً حقيقياً كان أقصى ما يمكنني فعله كي أتجنب إغضابه هو أن أغير اسمه وأبقي على كينونته”. ويؤكد بورخيس في هذا السياق أن أولى ضحاياه كانوا من أفراد عائلته وجيرانه، لكنه هنا اتبع لعبة تنقذه وتنقذ أولئك الأفراد من البهدلة: كان يبدل الأسماء فيعطي اسم هذا الفرد لفرد آخر ويذكر اسم امرأة ويؤنث اسم رب عائلة وهكذا. وهنا يبتسم بورخيس بمكر مضيفاً أن ما دفعه إلى لعبة “الكراسي الموسيقية” هذه، إنما كان الغنى الفاحش في تنوع الأسماء داخل عائلته تنوعاً أممياً بالنظر إلى تعدد جذور تلك العائلة بل حتى أصولها القومية وانتماءاتها الدينية.

مجرد لاعب يلهو

“وعلى أي حال، يضيف بورخيس، كما قلت لك، كنت مجرد لاعب إذ كنت بالكاد أعتقد أنني حقاً سوف أنشر ما أكتبه”. والحقيقة أن بورخيس لم يكن يخشى في تلك اللعبة سوى ردود فعل أمه التي سنعرف لاحقاً كم كانت ضخامة الدور الذي لعبته في حياته وفي توجيهها لا سيما بعد أن راح يعتمد عليها كلياً منذ فقد بصره فصارت هي عينيه وضميره. وهي لم تكن لتستسيغ أن يتشاجر مع أفراد العائلة أو يبدو وكأنه يتقصد الإساءة إليهم والسخرية منهم، لكنه كان يطمئنها باستمرار إلى أنه لا يعتقد أن نصوصه سوف تنشر، فإن نشرت فسيكون من الصعب أن يقرأها أفراد العائلة الذين ندر من بينهم من يهتم حقاً بقراءة أعمال أدبية، ولكن لو حدث فعلاً أن قرأوها فسيكون من المستحيل عليهم أن يفهموا أنهم هم المقصودون وهكذا”. في النهاية كانت قوة الإقناع لديه غالبة ما كان يتيح لأمه أن تتحول ببساطة من الحذر والتأنيب، إلى الاستمتاع بالقراءة والغرق في الضحك وهما جالسان في صالون البيت هو يفسر لها وهي تتكهن بمن هناك وراء ذلك الاسم أو ذاك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الضحك على الذات اللاعبة

ويقول بورخيس في هذا الصدد، إن الضحك الأكبر من جانب الأم كان حين قرأت للمرة الأولى النص الذي يعتبره هو اليوم نصه المفضل بين معظم ما كتب: قصة “الجنوب”، ولكن لماذا؟ “لأن “الجنوب” هي النص الأكثر ذاتية بين كل ما كتبت”، حتى وإن كانت في ظاهرها تبدو وكأنها أبعد ما تكون عن الذاتية. وهنا إذ لفت براملي نظره إلى هذا الواقع وقد شعر بأن بورخيس ربما يكون قد خلط بين نص وآخر، أمسك الكاتب بيد محاوره ووضعها على أعلى جمجمته مزيحاً شعره عن ذلك المكان قائلاً له: “هل ترى هذه الندبة؟ حسناً إنها الدليل الملموس على ما أقول. في قصة الجنوب هناك الحادثة والعيادة والعملية الجراحية في الدماغ التي تلت الحادثة. كل هذا قد حدث لي أنا بالفعل. لقد أجروا لي العملية الجراحية الخطرة التي أتحدث عنها في القصة حيث أرويها وكأنها أجريت لشخص آخر أنا الذي أصارحك بأنني بقيت لسنوات طويلة أتفادى المرور في الشارع الذي تقوم فيه العيادة!”. وبعد صمت قصير تابع الكاتب قائلاً، “لكني حتى اليوم لم أفهم ما الذي أضحك أمي كل ذلك الضحك وهي تقرأ “الجنوب” للمرة الأولى. هل تراها صدقت مثلاً أنني أضمر قدراً كبيراً من الشماتة بالشخص الذي أتحدث عنه معتقدة بالفعل أنني أسخر من آخر غيري بينما كنت أنا لا أسخر إلا من ذاتي؟ لست أدري. مهما يكن حين شرحت لها الأمر على حقيقته في النهاية انفرجت أساريرها وضحكت من جديد وهي تمرر أصابع يدها فوق الندبة متمتمة أنها إذا كانت هي نفسها لم تفهم في أدبي المعقد والمكتوب بحس غرائبي وساخر أن ذاتي الحقيقية تختبئ خلف “بطل” الحكاية، من المؤكد أن أحداً لن يفهم أبداً أنه قد يكون مقصوداً…”.

الكتابة دليلاً على الشفاء

بقي أن نذكر ما يرد في الحوار ذاته بين بورخيس وبراملي ليفيد بأن بورخيس لم يخض كتابة القصة القسيرة إلا بعد شفائه التام من تلك العملية التي فتحت أمامه كما يبدو درب الكتابة على مصاريعه. وبالتحديد لأن الكاتب حين آفاق تماماً مما حدث له وجد في الكتابة وسيلة للتأكد من أن حادثة سقوطه على الدرج وما تلاه من عملية جراحية، لم بل حتى لن يفقداه القدرة على التفكير إلى الأبد. كانت الكتابة بالنسبة إليه مجرد ترياق وتمعن في مدى خطورة حاله!