Home سياسة جورج مور “الإيرلندي الخائن” الذي بادل قومه الكراهية

جورج مور “الإيرلندي الخائن” الذي بادل قومه الكراهية

113
0

كما يحدث في كل الثورات ولا سيما تلك التي تغوص في الدماء وتثير كثيراً من السجالات والمنازعات حتى داخل أبناء الصف الواحد والقضية الواحدة، نعرف أن الثورة الإيرلندية لم تفلت من ذلك المصير. ونعرف أن كثراً من الأدباء والفنانين قد توقفوا عند تلك الظاهرة التي جعلت من إيرلندا وثورييها مضرب مثل على تفاقم الخيانات وضروب العقاب وما شاكلها.

ربما كان الكاتب الأرجنتيني جورج بورخيس من أعمق الذين تلقفوا تلك الظروف التي رافقت الثورة الإيرلندية وبخاصة في نصه “موضوعة الخائن والبطل” الذي اقتبسه السينمائي الإيطالي برتولوتشي في فيلمه البديع “استراتيجية العنكبوت” مطبقاً إياها على أحداث جعل إيطاليا ميدانها. غير أن الانزياح لم يضعف بالطبع من علاقة الموضوع بالثورة الإيرلندية. والحقيقة أن هذه الثورة الأخيرة امتلأت بالخيانات والانشقاقات الدامية إلى درجة مثيرة.

ولعل في حكاية الكاتب الإيرلندي جورج مور ما يلقي ضوءاً ساطعاً على ذلك كله وبقلمه هو شخصياً في عديد من كتبه وبخاصة في كتابه الأفضل “ذكريات حياتي الميتة” حيث نجده ومنذ ذلك العنوان يدخل صلب تلك القضية التي نظر إليها خلال النصف الآخر من حياته، وتحديداً “حياته غير الميتة” نظرة شديدة المرارة والسخرية أيضاً.

كتابة الذات كترياق للخلاص

ونعرف على أية حال أن جورج مور قد اشتهر بكتب الذكريات والاعترافات والبوح بأكثر مما اشتهر برواياته ومسرحياته وقصصه القصيرة، هو الذي لم يكن يتوقف عن إصدار تلك النصوص الذاتية التي كان يتحدث فيها عن فصول حياته بمتغيراتها ومغامراتها وآفاقها. وغالباً ما كانت هذه النصوص تأتي لتبرر أو تفسر تغيراً ما كان قبل ذلك طرأ على حياة هذا الكاتب الذي يكاد يكون شبه منسي في أيامنا لكن لأسباب سياسية وأيديولوجية لا لأسباب فنية. وربما لأنه خلال السنوات الأخيرة من حياته (ومنها عشر عاشها في دبلن، وهي السنوات التي أصدر فيها كتب ذكرياته الرئيسة)، كتب يقول ذات مرة معلقاً على نصوص له نشرها حول أهل دبلن وحياتهم الاجتماعية “إن نصف دبلن خائف من أن يكون مذكوراً في الكتاب، والنصف الآخر خائف من ألا يكون مذكوراً”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فإذا أضفنا إلى هذا أن جورج مور، من الناحية السياسية الإيرلندية وقف باكراً مع أنصار المعاهدة مع بريطانيا – على خلاف أخيه الذي عاداه منذ ذلك الحين – ثم عمد بعد ذلك إلى اعتناق البروتستانتية بديلاً من كاثوليكية آبائه وأهله وأمته، يمكننا أن نفهم سبب عزلته، وصعوبة اعتبار الإيرلنديين له واحداً من ممثليهم في تاريخ الأدب. وهنا في هذا الإطار قد يكون مفيداً أن نذكر أن الإنجليز بدورهم لم يحبوه كثيراً، وبالتحديد لأنه خلال المراحل الأولى من حياته كان معادياً لهم في كتاباته كما في تصرفاته. فمن بقي له؟ الفرنسيون… هؤلاء الذين عاش بينهم طوال سنوات عدة في سبعينيات القرن الـ19، وتأثر بأدبهم وكتب عن بروز النزعة الانطباعية في الفن بأوساطهم، ثم لاحقاً حين كتب رواياته الكبرى، بدا كثير التأثر بواقعية إميل زولا الطبيعية إلى درجة أنه اعتبر أول كاتب خارج اللغة الفرنسية حاكى أجواء صاحب “جرمينال” و”نانا” في أعماله.

وإذا كنا نذكر هنا كتب جورج مور التي كرسها للذكريات والمذكرات، سنقف بالتحديد عند الكتاب الأشهر بين هذه الكتب: “ذكريات حياتي الميتة”، وهو الكتاب الذي صدر للمرة الأولى في لندن عام 1906، حاملاً عنواناً ثانوياً، قد يبدو حاملاً قسطاً من الادعاء، لكن تفحصاً للكتاب سيرينا أن العنوان يعكسه بالفعل. ومن الواضح في الوقت ذاته أن مور الذي كتب نصوص هذه الذكريات ونشرها في المرحلة التي كان أنجز فيها انتقاله الطوعي من الكاثوليكية إلى البروتستانتية، شاء هنا أن يصفي حسابه، بخاصة مع نفسه وماضيه. وحسبنا أن نقول هنا إن مور، بعد أن أصدر هذا الكتاب وبعد أن لاقى ما لاقى من ردود فعل عليه، انتقل للعيش في لندن ليبقى هناك حتى آخر حياته، غير ناس أن يزور باريس – لكن ليس إيرلندا – بين الحين والآخر.

استباق لجيمس جويس

يتألف الكتاب من عدد كبير من النصوص، التي يروي فيها مور ذكرياته عن السنوات والعقود السابقة من حياته. وكان من الواضح أنه يعتبر تلك الحياة السابقة حياة “ميتة” بسبب التبدل الجذري الذي أجراه لاحقاً على حياته وأفكاره. ومن هنا ما يتسم به الكتاب، من أسلوب يبدو منفصلاً تماماً عن تلك الحياة. يصفها الكاتب متحدثاً عنها من دون أي حنين خاص. ولكأن جورج مور هنا يحكي، بطريقة زولا الموضوعية – الطبيعية، عن شخص آخر عرفه وتسلل إلى داخل حياته، راغباً في أن يجد في فصول تلك الحياة وثناياها ما يبرر وجوده الراهن. ومن المرجح أن هذه “البرودة” في التعاطي مع الذكريات معطوفة على “موضوعية” سابقة كانت لاحت عند الكاتب في مجموعة كبيرة من قصصه القصيرة التي تناول فيها شخصيات من دبلن وعلاقات له كان قد أقامها فيها، تضافرت لتحدث تأثيراً من الممكن دراسته على حدة، في أدب مواطن كبير من مواطني جورج مور، هو جيمس جويس، ذلك أن كثراً من النقاد والدارسين يرون دائماً أن جويس ما كان في إمكانه أن يكتب مجموعة قصصه الشهيرة “أهل دبلن” -والمختلفة جذرياً عن رواياته الكبرى “يوليسيس” أسلوباً وموضوعاً – لولا قراءته المعمقة لنصوص جورج مور.

من زولا إلى الانطباعيين

يكاد “ذكريات حياتي الميتة”، يكون من أكثر كتب جورج مور تعبيراً عن أدب هذا الكاتب وشخصيته، بل حتى نظرته إلى أدبه. فهو في هذا الكتاب، يعود – حتى بالصيغة الموضوعية التي نتحدث عنها – إلى توازن في الرؤيا متضافر مع أقصى ما كان في إمكانه أن يعبر عنه من داخل ذاته: إنه يعيد النظر في ماضيه بتبصر عميق وفهم لماح. وكأنه أراد أن يطبق على النص المكتوب، ما كان أصدقاؤه وزملاؤه الرسامون الانطباعيون، الفرنسيون بخاصة، طبقوه في لوحاتهم: وصف ما هو أمامهم كما هو، لكن عبر مرشح الروح المتفاعلة مع المشهد. وهكذا مثلاً، حين يصف جورج مور في أحد فصول الكتاب، يوم أحد أمضاه في لندن، أو أسراب الحمام المحلقة فوق حديقة باريسية عامة، أو بؤساء منطقة “دراري لين”، أو حتى نادلة في مقهى للفنانين في الحي اللاتيني الباريسي، يكاد المرء يشعر من خلال وصفه القلمي أنه أمام لوحة سردية ملونة، رسمها فنان مرهف الأحاسيس، لكنه لا ينسى أن عليه أن يصف انطلاقاً من داخل روحه، مشهداً يقف منه موقف المتفرج الغريب عنه.

 

إن مور هنا يكتب وهو مهتم تماماً بأن يعطي قارئه فرصة التماهي مع نظرته إلى المشهد، أكثر مما يطلب منه أن يتماهى مع المشهد. وفي كلمات أوضح، يبدو الكاتب هنا وكأنه يمسك بيد قارئه طالباً منه أن يشاركه في النظرة. والحقيقة أن لعبة جورج مور كلها تقوم هنا، في هذا الانفصال المقصود الذي يريد أن يحققه بينه وبين كل ما يصف، ذلك أنه يعتبر أن هذا الانفصال عن الذكريات ومشاهدها، هو الشرط الأساس لولادته الجديدة من رحم حياته التي انتهى أمرها و”ماتت” بالنسبة إليه وهو هنا ليس ليؤنبها، أو ليتحسر عليها، بل ليضعها في متحف الذكريات.

والمؤكد أن هذا التفسير لعلاقة جورج مور (1852 – 1933) بكتابه ينطبق على علاقته بكثير من كتب الذكريات التي وضعها طوال النصف الثاني من حياته، ومن أبرزها، إلى ما ذكرنا: “مرحباً ووداعاً” و”اعترافات شاب” ثم أخيراً “تواصل مع أصدقائي” الذي صدر بعد رحيله. وجورج مور الذي ولد في إيرلندا لأسرة ثرية من أصحاب الأراضي مات في لندن كما ذكرنا. وهو منذ يفاعته كان يريد أن يصبح رساماً – مما يفسر ربما ما نلمح إليه هنا من كونه أديباً كان يرسم بالكلمات – غير أن إقامته في باريس سنوات عدة واختلاطه بالفنانين الطليعيين فيها أحبطا كما يبدو، رغباته الفنية، لكن في المقابل أيقظا لديه ملكات أدبية سرعان ما سيطرت عليه. وهو كتب الرواية والشعر والقصة كما كتب للمسرح أعمالاً قدمت في إيرلندا كما في بريطانيا.