Home سياسة العمالة غير النظامية منتشرة في لبنان والأزمة تسهم في هضم الحقوق

العمالة غير النظامية منتشرة في لبنان والأزمة تسهم في هضم الحقوق

115
0

تصدق مقولة “شر البلية ما يُضحِك” في وصف حال العمال في لبنان، حيث تحوّل “اليوم العالمي للعمال” إلى موضوع للسخرية في هذه البلاد التي تعاني من أسوأ الأزمات في القرن العشرين، ومن انهيار مالي واقتصادي غير مسبوق، وتحلل لهيكل الدولة. فمنذ عام 2019، خسر العمال مدخراتهم وودائعهم في المصارف، كما تعرض الكثير منهم للصرف من الخدمة بحجة التقشف وعدم تحمل المؤسسة أعباء مالية إضافية، فيما اضطر آخرون إلى القبول بشروط أصحاب العمل، والتنازل عن حقوقهم في التقديمات العائلية والصحية والضمان الاجتماعي. ويختصر أحد المواطنين المشهد لـ “اندبندنت عربية” بالقول إنه “في لبنان، يجب إعلان يوم للعاطلين عن العمل” في إشارة إلى ارتفاع نسب البطالة، غامزاً من المنافسة غير المتوازنة مع اليد العاملة الأجنبية الرخيصة.   

وظيفة واحدة لا تكفي

دفعت الأزمة الاقتصادية، وانهيار الأجور والقدرة الشرائية للمواطن، إلى بروز نموذج “الوظيفة الثانية”، و”العمل المؤقت”، والعمل الجزئي”، وهذه المرة وفق الصيغة اللبنانية، فهي تأتي لتشكل مرادفاً للعمالة غير النظامية، حيث لا يحظى الأجير بأي حماية قانونية، أو استقرار وظيفي، أو ضمانات اجتماعية. واتسعت ظاهرة قيام موظفي القطاع العام، بشقيه المدني والعسكري، بأداء وظيفة ثانية. وتقدم قصة العسكري زاهر (32 سنة) والأب لطفلين، صورةً عن معاناة الموظف الرسمي في لبنان. حيث يضطر خلال أيام إجازته إلى الركوب خلف مقود سيارته والعمل كسائق أجرة. يؤكد زاهر أن الراتب لا يكفيه لتأمين الحاجات الأساسية للعائلة من مأكل ومشرب، وهو عاجز عن دفع إيجار منزله، لذلك فهو يعمل لبعض الساعات يومياً كسائق أجرة لزيادة مدخوله. تتكرر قصص مشابهة على ألسنة الكثيرين، فقد عاد البعض للعمل في الزراعة، والبناء، كما انتشر العمل في خدمات التوصيل، و”التجارة الأونلاين” (عبر الإنترنت).
تنسحب المشكلة على عمال القطاع الخاص، وبدا لافتاً أن المعاناة تتكرر لدى موظفي المصارف الذين تربطهم بالمؤسسات عقود عمل جماعية، تتيح لهم من حيث المبدأ الضغط على المؤسسات المصرفية لتحسين أوضاعهم. يصف جورج الحاج “نقيب موظفي مصارف لبنان” وضع الموظفين بالمأساوي، لأن أجورهم بالليرة اللبنانية، والمساهمات (الإعانات) التي تقدمها المصارف لهم، لا تحل الأزمة، لأن المستحقات على الموظفين أكبر بكثير من الأجور”، متخوفاً من “عدم وجود أفق للحل السياسي القريب دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتشكيل حكومة فاعلة، وبرنامج عمل لمعالجة الأزمة الاقتصادية وإعادة الودائع لأصحابها، لكي تستعيد المصارف ثقة اللبنانيين”. ويؤكد الحاج “بما أن القطاع ليس بخير، فالموظفين كذلك”، مقراً بتراجع الخدمة المصرفية بسبب غياب الحافز لدى الموظف.    

أرقام غير مبشرة

تقدم أرقام المسح الذي أجراه جهاز “الإحصاء المركزي” بالتعاون مع “منظمة العمل الدولية”، مجموعة معطيات ذات الدلالة حول سوق العمل في لبنان. فمن جهة، تستمر مستويات البطالة في الارتفاع، وكذلك العمالة غير النظامية، وحالة اللامساواة بين الرجال والنساء. إذ بيّن البحث الذي درس عينة فعلية من 5444 أسرة في مختلف المحافظات، أن الرجال نشطون في سوق العمل أكثر من النساء، حيث تبلغ نسبة الرجال 66.2 في المئة، مقابل 22.2 في المئة من النساء. وبحسب المسح، ارتفع معدل البطالة في لبنان من 11.4 في المئة في فترة 2018 – 2019 إلى 29.6 في المئة، وهذه النسبة مرشحة للارتفاع في ظل تعمّق الانهيار الاقتصادي. أما العمالة غير المنظمة التي لا تغطيها بشكل كافٍ الترتيبات الرسمية ونظم الحماية، فتمثل الآن أكثر من 60 في المئة من العمالة في لبنان حسب الإحصاء المركزي. وتوصل المسح إلى أن نحو نصف القوى العاملة والقوى العاملة المحتملة في لبنان، استُخدمت بشكل ناقص، حيث يكون الأشخاص متاحين للعمل لساعات أطول من العادة، وارتفعت نسبة العاملين من 16.2 في فترة 2018 – 2019، إلى 50.1 في عام 2022.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نحو قانون جديد للعمل

يشكل إصلاح قانون العمل مقدمة لحل أزمة سوق العمل والعمالة في لبنان، ومن المفارقة أن القانون الذي ما زال مطبقاً في البلاد، هو ذاك الذي أُقر في عام 1946، الذي ظهر في ظل نظام اقتصادي مختلف، وفي ظل أنماط انتاج مختلفة، وجاء تكريساً لفلسفة قانون العمل الداعية لإنصاف الأجَراء والحد من التفاوت الاقتصادي بينهم وبين أصحاب العمل. ويشدد المدير التنفيذي للمرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين، الدكتور أحمد الديراني، على ضرورة إقرار “التعديل الشامل لقانون العمل”، لأن “مطلب إحالة القانون الحالي على التعاقد، لا تعني العيش دون قانون، وإنما وضع قانون عمل إنساني عادل وعصري يواكب التطورات”، مبرراً ذلك بجملة أسباب، فالقانون الحالي “لا يتضمن سياسات وآليات توفر وتحمي الحق في الوصول إلى العمل”، لأن “تشريعاته ومواده باتت متخلفة جداً عن تشريعات العمل الدولية، ومعايير العمل اللائق والعدالة الاجتماعية”.
كما أن القانون القائم في لبنان “لا يواكب المتغيرات في سوق العمل الذي شهد ولادة فئات عمالية وقطاعات جديدة لا يلحظها القانون، على غرار عمال التطبيقات والتوصيلات، الدليفري، ونشوء أشكال جديدة من علاقات العمل، كالعمل عن بعد، وعقود العمل الجزئية والمؤقتة، والعقود الاستشارية وغيرها”. ويضيف الديراني أن “قانون العمل القائم لا يوفر بيئة عمل سليمة، ولا يحمي من الإصابات والحوادث والأمراض المهنية التي تصيب العمال بسبب العمل. وهو قانون لا يتضمن آليات رقابة فاعلة وملزمة تجاه تطبيق أحكامه”.
إلى ذلك، وضع “المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين” ورقة عمل تضمنت تسليط الضوء على جملة ثغرات، لا بد للقانون الجديد من تجاوزها، انطلاقاً من القانون الحالي الذي “لا يشمل جميع العمال والعاملات، فهو يستثني العاملين في الخدمة المنزلية، والعاملين في الزراعة، والمياومين، والأجراء في البلديات، والمؤسسات العامة، ولا يحقق المساواة لا سيما في فرص العمل والأجور والترقية للنساء، ولا يحمي العمال والعاملات الأجانب، ولا يلحظ وجود المعوقين حركياً وذوي الحاجات الخاصة كفئة فاعلة في سوق العمل، ولا يحميهم. وما زال عمال قطاع البناء والأشغال العامة في القطاعين العام والخاص خارج أي حماية قانونية”. كما تطرقت الورقة إلى “الحماية من التنمر والتحرش الجنسي والمساواة بين كافة العمال دون أي تمييز، وإلى عدم لحظ العمالة غير النظامية والمحرومة من جميع التقديمات الصحية والاجتماعية والقانونية”، و”لا يؤمن القانون الحالي استقرار العمل وديمومته، ولم يحدّث آليات حماية الأطفال من الاستغلال، ولم يضع تشريعات جديدة للحد من عمالة الأطفال”.
من هذا المنطلق، تشكل ورقة المرصد بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني محاولةً لإطلاق حوار اجتماعي، تمهيداً لوضع مشاريع تؤدي لتعديل شامل للقانون.

الدولة القوية هي الحل

خلال سنوات الأزمة، لم تتخذ السلطات اللبنانية أي إجراء جدي لتحسين وضع العمال، واقتصر الأمر على رفع الحد الأدنى الرسمي للأجور إلى قرابة 200 دولار أميركي، وهو فعلياً لا يشكل خطوة نحو تحسين وضع العمال، فهو لم يصل بعد إلى نصف ما كان عليه قبل الانهيار عندما كان يساوي 675 ألف ليرة لبنانية، أي ما يعادل 450 دولاراً أميركياً. فيما تزداد الشكوى من غياب أجهزة التفتيش، وكذلك توقف مجالس العمل التحكيمية (قضاء العمل) عن النظر في الدعاوى بسبب توقف مفوضي الحكومة عن العمل.
يعتبر الدكتور أحمد ديراني أن “وضع العمال في لبنان، يشكل انعكاساً لحالة التحلل التي يشهدها الكيان اللبناني، واضمحلال مؤسسات الدولة وأجهزتها”، حيث تعجز الأجهزة ذات الطابع القضائي، والرقابي والتفتيش في إلزام المؤسسات على تطبيق موجباتها وفق مندرجات قانون العمل. من جهة أخرى، يشير الديراني إلى ضرورة شمول قانون العمل الجديد لعمال التطبيقات، الذين أصبحوا يشكلون شريحة كبيرة من العمال، وعدم الخضوع لأرباب العمل والشركات الكبرى، لأنهم “ليسوا بمقاولين يعملون لحسابهم الخاص ويخضعون لشروطهم، لأنه يعمل لصالح التطبيق والمشغّل، ونظامه. لذلك، فإن فرنسا اعتبرتهم أجراء، يحق لهم الإجازة، والانتساب إلى الضمان”. ناهيك، إلى “إنصاف الفريلانسر (العامل الحر) في قطاع الصحافة والإعلام الذين لا يتمتعون بالتأمينات والحماية”، وكذلك “العمل عن بُعد الذي يوفر على أصحاب العمل نفقات التشغيل التي أصبحت تقع على عاتق الأجير”.
ويقترح الديراني “شمول قانون الضمان الاجتماعي لكافة المواطنين من أجل حماية الفئات الأكثر هشاشة، وتحديداً أصحاب العقود المؤقتة والجزئية، وإلزام أصحاب العمل بتسجيلهم”، منتقداً “استغلال ضعف الثقافة الحقوقية لدى العمال”، و”القصور في عمل مجالس العمل التحكيمية التي تستغرق الدعوى وقتاً طويلاً بين 3 و5 سنوات، فيما يفترض القانون إنجازها وفق أصول العجلة خلال 3 أشهر”. ويطالب المتحدث ذاته بوضع نظام للتقاعد، وتعويض للبطالة، و”عدم الخضوع للنموذج النيوليبرالي المتوحش”، متسائلاً “أين أصبح قانون التقاعد والحماية الاجتماعية الذي يمنح معاش تقاعدي لموظفي القطاع الخاص؟ وكم من الوقت يحتاج لإقرار المراسيم التنظيمية؟”.