Home سياسة حراك الجامعات الأميركية: متغيرات داخلية وتجاه إسرائيل

حراك الجامعات الأميركية: متغيرات داخلية وتجاه إسرائيل

115
0

أميركا خسرت حرب فيتنام في حرم الجامعات لا في ساحات سايغون، وكان لديها نصف مليون جندي هناك بقيادة الجنرال وستمورلند الذي وعد بسحق ثوار الـ “فيتكونغ”، لكن الجيش الأقوى تأثيراً في صانعي القرار السياسي والعسكري كان طلاب الجامعات الذين تظاهروا يومياً ضد إرسال الأولاد إلى الموت في بلد بعيد، لا خطر على أميركا منه ولا مصلحة حيوية لها فيه.

بعضهم رفض التجنيد وهرب إلى كندا أو فضل السجن على قصف مزارعين في بلد فقير، والقسم الأكبر منهم عجزت السلطة عن إسكاته كما عن وقف تأثيره في الرأي العام.

والرئيس ليندون جونسون الذي أرسل مزيداً من الجنود إلى فيتنام اعترف بعد ذلك بأنه كان مجبراً على التصعيد وزيادة الجنود والإنفاق في “حرب لا يمكن ربحها”.

أما الرئيس ريتشارد نيكسون الذي أمر بقصف هانوي وميناء هايفونغ في فيتنام الشمالية وضرب لاوس وتشديد الضغط على الـ “فيتكونغ”، بناء على نصائح مستشار الأمن القومي ثم وزير الخارجية هنري كيسنجر، لم يجد في النهاية مهرباً من التفاوض مع هانوي على الانسحاب والسلام.

وحتى وزير الدفاع واينبرغر لم يكتم في مذكراته ما كان يقدره منذ البدء، وهو صعوبة النجاح ضد ثوار وطنيين يؤمنون بضرورة توحيد فيتنام والعيش في ظل ثورة اشتراكية، ويدعمهم الاتحاد السوفياتي والصين، في حين أن الجبهة الداخلية في أميركا منقسمة.

ولم يكن حراك الطلاب في الجامعات ضد حرب فيتنام سوى فرصة للاحتجاج على أمور كثيرة في أميركا، من سياستها الخارجية ثم الداخلية إلى تحكم الشركات العملاقة بكل شيء، وما كان بول كروغمان الحائز “جائزة نوبل” في الاقتصاد يبالغ حين وصف أميركا بأنها صارت “أقل ديمقراطية وأكثر أوليغارشية”.

واليوم يتكرر الدرس في الجامعات الأميركية، موجة عالية وصاخبة من الاحتجاجات في معظم الجامعات من الشاطئ الشرقي في نيويورك وواشنطن وبوسطن إلى الشاطئ الغربي في كاليفورنيا مروراً بالوسط، وعنوان الاحتجاجات هو فلسطين انطلاقاً من حرب غزة والتوحش الإسرائيلي والدعم الأميركي الأعمى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن المطالب وقف الجامعات أي تعاون مع جامعات إسرائيلية وأي استثمار في شركات السلاح الذي تدمر به إسرائيل غزة، لكن الموضوع أشمل بالطبع.

شيء من حراك اجتماعي وشيء من دفاع عن الهوية وحق الأقليات، وشيء من تطبيق المبدأ الذي ركز عليه المؤرخ الأميركي هوارد زن بالقول إن “الانشقاق هو أعلى أنواع الوطنية”، وشيء من الخروج على الانقسام العميق بين المتشددين في حزب “الفيل” الجمهوري والكلاسيكيين في حزب “الحمار” الديمقراطي، لأن “الديمقراطية صارت مستحيلة في هذه البرية الجديدة، حيث نصف الشعب لا يستطيع سماع النصف الآخر، كما جاء في مقالة آن آبلبوم وبيتر بوميرانتسيف الذي نشرته مجلة “أتلانتيك”.

ذلك أن طلاب الجامعات الأميركية خليط من كل شعوب العالم كما هو الشعب الأميركي نفسه، وهم جيل يواجه تحديات صعبة وحقائق غير مقبولة في أمور عدة.

في عام 2023 بلغ الإنفاق العالمي على التسلح 2.443 تريليون دولار، بحسب “معهد ستوكهولم الدولي” لأبحاث السلام، إذ أنفقت أميركا وحدها 916 مليار دولار، والصين 296 ملياراً وروسيا 169 ملياراً، أما تسليح الـ “ناتو” فقدر بـ 1371 مليار دولار، وهم في مشكلة مع الأقساط والديون.

هذه الأرقام أنفقت بينما أكثر من مليار إنسان في العالم تحت خط الفقر، فيما يملك 10 أشخاص، تسعة منهم أميركيون، 1.56 تريليون دولار معظمها من بيع الهواء عبر التكنولوجيا في مقابل 7 مليارات إنسان على الكرة الأرضية، نصفهم من الطبقة الوسطى و40  في المئة فقراء، وتسعة في المئة أغنياء وواحد في المئة أثرياء جداً يملكون أكثر من البقية.
والتطور المهم والبارز الذي حدث في أميركا يتعلق بالموقف من إسرائيل، والمعادلة معبرة هي أن الموقف الرسمي يزداد اقتراباً من السياسة الصهيونية ودعماً لإسرائيل حتى في ظل التطرف اليميني الديني والعلماني إلى الحد الأقصى، والموقف الشعبي يزداد ابتعاداً من السياسة الصهيونية ومن دعم إسرائيل.

وزير الخارجية دين اتشسون أيام الرئيس هاري ترومان كتب في مذكراته أن “الصهيونية كسياسة أميركية رسمية ستسمح للعواطف الباطنية لليهود بالتعتيم على مجموع المصالح الأميركية”، فيما قال وزير الخارجية جون فوستر دالس أيام الرئيس دوايت أيزنهاور إن “إسرائيل حجر رحى في أعناقنا”، واليوم يفاخر الرئيس جو بايدن بأنه “صهيوني”، وينقل عن والده قوله “ليس من الضروري أن يكون المرء يهودياً لكي يكون صهيونياً”.

أما وزير خارجيته أنتوني بلينكن، وهو واحد من اليهود الذين يشغلون مناصب مهمة في الإدارة، فقال خلال زيارته لإسرائيل في أعقاب “طوفان الأقصى” إنه “جاء كيهودي”، والرئيس دونالد ترمب الذي سبق بايدن وقد يعود للبيت الأبيض بعده، فيفاخر بأنه نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، واعترف بضم الجولان السوري لإسرائيل، وعمل على “اتفاقات أبراهام” بين إسرائيل ودول عربية.

لكن الجيل الجديد من الطلاب يسمع حتى من المؤرخ اليهودي طوني جوت الذي عمل في كيبوتز وتطوع في الجيش الإسرائيلي خلال حرب عام 1967 القول بعد تجربته وخبرته إن “إسرائيل مغالطة  تاريخية ودولة من قرن مضى”، ويقرأ في كتاب البروفسور آفي شلايم “الجدار الحديد: إسرائيل والعالم العربي” أن “الصهيونية صارت العدو الحقيقي لليهود، وسياسة اسرائيل تجاه العرب هي سبب اللاسامية الجديدة”، والأهم أن هذا الجيل يرى ما يحدث في غزة من حرب إبادة، وتهزه صور الباحثين عن طعام وماء من بين مليوني لاجئ في الخيم، ولن يوقف حراكه مهما اشتد القمع في الجامعات على أيدي الحرس الوطني.

وليس من السهل مع الإدارة الحالية وأي إدارة أخرى التصرف وكأنه لم يتغير شيء في أميركا ولم يحدث شيء في الجامعات والمجتمع، والسؤال هو إلى أي حد تستطيع إسرائيل الاستمرار في الجنون وسط التغير الظاهر في المجتمع؟ قبل عقود كتب أمبروز بيرس في “قاموس الشيطان” أن الحروب هي طريقة الله لتعليم الأميركيين الجغرافيا”.