Home سياسة مصريون يحلمون بتأجيل العودة إلى الواقع بعد عطلة العيد

مصريون يحلمون بتأجيل العودة إلى الواقع بعد عطلة العيد

128
0

الازدحام على “كحك العيد” (الكعك) تاريخي. كانوا مئات، ثم آلافاً، وفي الساعات القليلة السابقة للعيد أصبحوا ملايين. إنه الفيديو الذي تدعي صاحبته أنه في الإمكان تجهيز كيلو كعك في البيت بأقل من مئة جنيه مصري.

مئة جنيه مصري تشتري أقل من نصف كيلو جبن رومي، أو عبوتين ونصف عبوة سكر، أو لتر زيت، أو ربع كيلو “كحك” من محل متوسط، لا هو مشكوك في صلاحية مكوناته ومن ثم رخص سعره، ولا هو في متناول المواطن المليونير.

اصطفاف وطني

هذا الاصطفاف الوطني على فيديو “الكحك بمئة” لا يعكس تفاصيل الأوضاع الاقتصادية التي ألمت بالغالبية، بقدر ما يعكس رغبة في التمسك بتلابيب الفرح وإصراراً على الإبقاء على مظاهر البهجة، وهو ما يقف على طرف نقيض من أحاديثهم الجانبية ومخاوفهم الرئيسة.
ورغم طول فترة إجازة العيد التي بلغت ستة أيام كاملة، إلا أن خوفاً ما يعتري كثيرين من انتهاء رمضان، وبعده العيد، والعودة لمواجهة الواقع.
لأسباب، ربما ثقافية أو روحانية أو بحكم العادة، يعمد الواقع إلى الانزواء جانباً في كل رمضان. 30 أو 29 يوماً من كل عام يتلقط فيه المصريون أنفسهم، لا من الطعام والشراب النهاري فقط، بل من الانغماس في واقع تفاصيل الحياة المعتادة. فاتورة الكهرباء، مصروفات المدارس و”فيزيتا” الدروس الخصوصية، أسعار المواصلات العامة، رغيف العيش (الخبز) وتطوراته المأسوية، تراجيديا التسعير حيث سعر كيلو الجبن وأنت داخل السوبرماركت ليس كسعرها وأنت خارج منه وغيرها من مكونات الحياة اليومية التي تحال للاعتكاف طيلة الشهر الكريم ستطل كلها برأسها في اليوم التالي لانقضاء عطلة العيد.

تأجيل العودة

فيما مضى، كان تلاميذ المدارس وحدهم، لا سيما كارهي التعليم أو نظامه العقيم من بينهم، هم الأكثر تمنياً لإطالة أمد الإجازات وتأجيل العودة لمعترك الحياة. مصطفى الذي كتب على “فيسبوك”، “لست مستعداً لحياتي بعد العيد”، وسارة التي دعت علماء الفلك ومعهم علماء الدين إلى مراجعة علومهم وأنفسهم، إذ ربما يكون رمضان قد أتى مبكراً قليلاً أو رحل متأخراً بعض الشيء ما يعطي الجموع الحق في البقاء في البيت إلى ما بعد انتهاء إجازة العيد بقليل، وحازم الذي غرد بدعاء “اللهم باعد بيننا وبين انتهاء عطلة العيد، اللهم قارب بيننا وبين عطلة عيد الأضحى”، وغيرهم ممن عبروا عنكبوتياً عن أمل في تأجيل العودة إلى معترك الحياة بعد رمضان ليسوا استثناء، وآمالهم ليست حركاً عليهم.
شعور عام، يجمع بين كثيرين، بالخوف من المواجهة. أجواء رمضان الجامعة بين روحانيات الصيام والصلاة وقراءة القرآن من جهة، والغرق في المسلسلات والانغماس في فيديوهات الطبخ والانشغال بالمناسبات الاجتماعية المبهجة من جهة أخرى، باعدت بين المصريين وبين الواقع على مدار 30 يوماً، تعقبها ستة أيام هي طول مدة إجازة العيد.

نشرات أخبار إحمائية

وعلى الرغم من أن نشرات الأخبار الإحمائية – استعداداً لمعاودة الغرق في برامج الحوارات وتحليلات الأخبار ومتابعة مجريات الأحداث- بدأت تتحدث عن تراجع المعدل السنوي للتضخم الأساسي ليسجل 33.7 في المئة في مارس (آذار) الماضي، مقابل 35.1 في المئة في فبراير (شباط) الماضي، وتوقعات بانخفاض أسعار بعض السلع الغذائية بنسبة 30 في المئة، وتوقعات بتحسن مؤشرات الاقتصاد وغيرها مما يفترض أن تكون أخباراً سارة مشجعة على العودة إلى معترك الأخبار، إلا أن أرض الواقع في السوق والسوبرماركت تقول كلاماً مختلفاً، ربما يساهم في تفاقم الرهاب الجماعي فيما يتعلق بالعودة بعد العيد. بعد العيد بدأ قبل العيد. ارتفعت أسعار الدواجن، رغم التأكيد على قرب انخفاضها. زادت أسعار الذهب ومصنعيته، بعد انخفاض طفيف لم تهنأ به الجماهير. الإعلان عن لجنة تعمل حالياً لرسم خريطة تخفيف الأحمال الكهربائية رغم شعور عام بأن أزمة محطات الكهرباء قد انتهت، وبعد الإعلان عن زيادة أسعار الشرائح. الإعلان عن زيادة مرتقبة في أسعار سجائر “كليوباترا” الشعبية وسجائر الفئة الوسطى في ضوء ارتفاع سعر الدولار الرسمي في البنوك. توقعات بحدوث ارتفاع في نسبة التضخم – رغم الإعلان عن انخفاض- في ضوء خفض قيمة العملة ورفع سعر الفائدة. أسعار الرنجة (الأسماك المملحة) تحقق أرقاماً قياسية حيث تعدى بعضها حاجز الـ 200 جنيه، ومؤشرات أجواء ما بعد العيد تفرض نفسها فرضاً على المصريين.

خارج الصندوق

لكن المصريين دائماً يأتون بردود فعل خارج الصندوق. وتشير التوقعات إلى تضييق وتقشف بفعل الاقتصاد، فيُمعنون في تنظيم موائد الرحمن للإفطار الرمضاني لغير القادرين. ترجح المؤشرات خفض الإنفاق على الأكل والشرب، لا سيما المكونات الترفيهية، فينفد الكعك من الأسواق قبل انتهاء رمضان. يتخوف القائمون على أمر المستشفيات والمراكز الخيرية المخصصة لعلاج غير القادرين من انخفاض نسب ومعدلات التبرع بسبب تدهور الأحوال المعيشية، فتزيد أعداد المتبرعين، وإن انخفضت قيمة متوسط التبرعات. حتى جيوش المتسولين الموسميين التي تغزو الشوارع عقب التأكد من رؤية هلال رمضان وتستعد للرحيل مع ثبوت رؤية هلال شوال أو بعده بقليل، فتعود إلى مقارها هذا العام مجبورة الخاطر مكتنزة الجيوب بفضل تنامي حب عمل الخير أو تصاعد أحاديث الدعاة الجدد عن الصدقات التي تدفع البلاء وتسد 70 باباً من السوء أو كليهما.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خلطة مختلفة

كل المؤشرات تؤكد أن خلطة العيد في مصر مختلفة هذا العام. صحيح أن العيد في الأعوام الـ 20 أو الـ 30 الماضية أتى في كل مرة بظروف ومستجدات جعلت المصريين يظنوا أنه العيد الأصعب، وجميعها ظنون سببها الاقتصاد ومعضلاته، إلا أن العيد هذه المرة متفرد في مكوناته بالفعل.
مكوّن الاقتصاد مستمر، ويبدو أنه متفاقم، لكن تضاف إليه توليفة من مصادر القلق ومنابع التوجس. في الأسبوع الأخير من شهر رمضان، أطلت على ملايين المصريين الملازمين “كنباتهم” لزوم المتابعة الدرامية في ساعات مع بعد الإفطار، فقرة إعلانية يقول البعض إنها قطعت الشك باليقين، بينما اعتبرها البعض الآخر إشهاراً لمرحلة فريدة في الجمهورية الجديدة، فيها وجوه غير تقليدية.
الأشهر القليلة التي سبقت رمضان شهدت تصاعداً مكتوماً بين دوائر المصريين للبحث عن “العرجاني”. فرض الاسم نفسه غير مرة في حوادث وأحداث متفرقة دار أغلبها في حيّز القيل والقال الكلاسيكي. اسم إبراهيم العرجاني لم يكن معروفاً أو مطروحاً أو حتى مثيراً للبحث والتنقيب حتى وقت قريب مضى.
ارتبط اسم العرجاني بجهود محاربة الإرهاب في سيناء منذ عام 2011، وبشكل أكبر عقب احتدام الإرهاب في سيناء عقب إنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين في عام 2013.

طرح قوي

وعلى الرغم من الكثير من التقارير الإخبارية والصحافية التي احتوت على اسم العرجاني، كأحد مشايخ قبيلة الترابين في سيناء، أو “أحد أبطال الحرب على الإرهاب” أو “أحد أبرز الداعمين للجيش والشرطة في حربهما ضد الإرهاب في شمال سيناء” طيلة هذه السنوات، إلا أن الاسم لم يطرح نفسه بقوة إلا في الأشهر القليلة الماضية.

شظايا الـ “سوشيال ميديا” حيث ميليشيات إلكترونية مهمتها بث الفتن ونشر الشكوك، مع استعداد فطري لدى المستخدمين للبحث في أغوار الشخصيات الغامضة، ومعها قدر غير قليل من شح المعلومات الرسمية والمكاشفات الإعلامية، أنتجت هالة غير مسبوقة من السرية المثيرة حول الرجل. هذه الهالة ساهمت في إشعال نيران حب الاستطلاع وبدء تسلل النيران إلى الشارع الذي لم يكن يدرِ بأمر العرجاني شيئاً حتى أيام أو أسابيع قليلة مضت.
جزء من الإشعال الأخير سببه تقارير إعلامية متواترة عن ضلوع شركة يملكها الرجل في إجراءات عبور الفلسطينيين من غزة إلى مصر عبر معبر رفح، وتحصيل رسوم بالدولار. أغلب هذه التقارير أشار إلى محاولات الحصول على تعليق من العرجاني أو أحد مسؤولي شركته أو شركاته، دون جدوى. التعليق الوحيد جاء من “الهيئة العامة للاستعلامات” التي نشرت بياناً في يناير (كانون ثاني) الماضي، وذلك للرد على تقارير حول ما وصِف بأنه “استغلال من قبل منسقين لفلسطينيين يحاولون الخروج من رفح الفلسطينية إلى رفح المصرية، في مقابل مبالغ مالية باهظة. ووصفت ذلك بـ “ادعاءات كاذبة”.

أجواء القيل والقال

وسرعان ما عادت أجواء القيل والقال والبحث عن العرجاني وطبيعة عمله، وشبكة صلاته بكبار المسؤولين إلى سابق عهدها. من القيل المصحوب بتقارير غير موثقة، والقال المنقب في أغوار الشبكة العنكبوتية عن الرجل وأصله وفصله، وهي الأجواء التي اعتادها المصريون لا سيما في سنوات ما بعد “الربيع العربي”، ولكنها كانت عودةً هادئة بفعل رمضان وطبيعته المناهضة للأخبار الساخنة والسجالات الحامية. وكان مقدر للمسألة الاحتفاظ بهدوء رمضان النسبي، لولا إطلالة إعلان عن “مجموعة العرجاني” عبر الشاشات التلفزيونية في الأيام الأخيرة من شهر رمضان، وهو ما أخرج البعض من الاعتكاف الرمضاني المكتفي بالدراما والحلويات.
الإعلان الذي يحمل عنوان “بنبني لكل مصري” صار حديث الكثيرين منذ بدء بثه في الأيام الأخيرة لرمضان، إذ خرجت المجموعة (مجموعة العرجاني) على الملأ لتعلن عن مجالات عملها واستثماراتها في السيارات، والعقارات، والسياحة، والضيافة، والبناء، والصحة، والمستشفيات، والرياضة، والأمن، وأشياء أخرى. وضمن الأشياء الأخرى التي تسللت إلى المصريين مع انتهاء رمضان وبدء العيد إعادة فتح ملف غزة، وهو الملف الذي لم يُغلَق، لا رسمياً أو شعبياً، فقط توارت مناقشاته بفعل رمضان. العودة تمثلت في فريق يذكّر نفسه وآخرين بأهمية استمرار مقاطعة بعض المنتجات والمحلات التي يقولون إنها تدعم إسرائيل أو جيشها، وآخر يستهل العودة بفتح أبواب التنجيم الإلكتروني حول مستقبل القطاع ويحلل انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب ويتوقع الخطوة التالية في ضوء تعثر كل الحلول. وهناك فريق ثالث وجد نفسه جزءاً من حراك عنكبوتي دائر على مدار اليوم على صفحات مخصصة لأمور وخدمات الفلسطينيين في مصر.

صفحات الفلسطينيين

فلسطينيون باحثون عن فرصة عمل، أو يسألون عن إجراءات تسجيل الشقق أو الالتحاق بجامعة أو مدرسة، أو سعر الشيكل في سوق العملات، أو سبل الحصول على تأشيرات لدول في الشرق والغرب وغيرها من موضوعات النقاش التي تبدو طبيعية في مثل هذه الأحوال. لكن غير الطبيعي أو غير المتوقع تمثل في شد وجذب حول “كحك العيد”. فهذه سيدة قدمت من غزة وتعرض بيع الكعك في مناسبة العيد لتأمين دخل لنفسها وأطفالها، فتأتي التعليقات متنوعة بين دعاء لها ولأهل غزة، وسؤال حول إذا ما كان الكعك بالسمن البلدي أم بالمخلوط، وتوبيخ لهذه وتلك لأن الأوضاع في غزة تتطلب البعد عن “الكحك” ومواصفاته وعن السمن وأنواعه، ثم عودة إلى سؤال عن سعر “الكحك” وإن كانت هناك “غريبة” أم لا!
غريبة أجواء العيد هذا العام، لكن الأكثر غرابة هو صدق الأمنيات الخيالية بأن تمتد عطلة العيد حتى لا يضطر الجميع للعودة لمعترك الواقع، دون مسلسلات، أو وصفات حلويات، أو موائد رحمن، وحملات تبرعات. فقط، أسعار سلع مصرة على الارتفاع، ووضع اقتصادي يصر على التربص بجويب المصريين، وظهور مفاجئ لشخصيات تطرح علامات استفهام في المرحلة الجديدة، ومكون “غزاوي” متناهي الصغر في المجتمع العائد لتوه من عطلة العيد.