Home سياسة ابنة ملك الإنجليز هنري الثامن تحت مجهر الفرنسي فيكتور هوغو

ابنة ملك الإنجليز هنري الثامن تحت مجهر الفرنسي فيكتور هوغو

104
0

هنالك ماريتان ملكتان في التاريخ الإنجليزي ربما تكون كل منهما أكثر جدارة بأن تكون جزءاً من المسرح التاريخي الذي كتبه وليام شكسبير لكنه لم يقدم على تخصيص أي منهما بمسرحية خاصة. وربما لن نعرف حقيقة ذلك الاستنكاف على رغم أن الشاعر والكاتب الألماني فردريخ شيلر أعلن دائماً أنه لئن كان قد اهتم بالأكثر شهرة من بينهما فما ذلك إلا سيراً منه على خطى شاعر الإنجليز الأكبر لأن محاكاة صاحب “ماكبث” و”الملك لير” إنما كانت واحدة من وسائله في التعبير عن نفسه مسرحاً وشعراً. وهذه الأخيرة هي بالطبع ماري ستيوارت المعروفة بـ”ملكة اسكتلندا” التي انتهت حياتها في الزنزانة وحبل المشنقة على يد قريبتها ملكة إنجلترا. أما ماري الأخرى فهي ماري تيودور التي تنتمي إلى تلك الأسرة المالكة في لندن من جراء كونها ابنة الملك هنري الثامن. فحكايتها حكاية أخرى ويبدو أن سوء طالعها هو من ظلمها ولكنه ظلم أيضا مآلها على صعيد اهتمام التاريخ بها، بل لنقل تحديداً اهتمام الفنون المسرحية والموسيقية والفنون التشكيلية بها.

من حيث لا أحد يتوقع

ففيما لم يتوقف المبدعون منذ نهاية ماري ستيوارت عن استعادة حياتها ومأساتها وتأثيرها في تاريخ الإنجليز الدامي وعلى استشراء الصراعات الدينية في هذا البلد، فإن مأساة ماري تيودور لم تلفت سوى مبدع كبير هو فيكتور هوغو الذي كان يبدو وكأنه آخر من قد تثير قضية ماري تيودور اهتمامه، لكنها في الحقيقة أثارته من حيث لا يتوقع أحد كما سنرى بعد سطور. وفي الانتظار قد يكون من المفيد هنا أن نكرس لماري الأخرى التي لم تثر اهتمام صاحب “كرومويل” و”البؤساء” بين عشرات الأعمال المسرحية والروائية، أي ملكة اسكتلندا، بضعة أسطر للقول إن قصائد ومسرحيات ربما كانت في معظمها متعاطفة مع الملكة التي أعدمتها إليزابيث الأولى في عام 1587، لكنها تبقى جميعاً محاطة بقدر كبير من الغموض. ولعل هذا الغموض الذي ربما يكون شيلر هو من عرف كيف يبني مسرحيته عليه بعد الإعدام بعقود طويلة وبعد أن جرب كتاب ثم موسيقيون كبار حظهم في معالجة الموضوع. والمهم في الأمر هنا هو أن من أتوا بعد مسرحية شيلر وصولاً إلى كبار الملحنين الأوبراليين قد ساروا كما أشرنا على منوال شيلر وإن كان النص الذي كتبه الإسباني لوبي دي فيغا لم يبتعد عنه كثيراً. ولا شك أن غايتانو دونيزيتي عرف كيف يجمع نصي شيلر ولوبي دي فيغا في موسقته أوبراه الكبرى التي اعتاد المؤرخون تفضيلها على أي عمل آخر لهذا الموسيقي الذي بفضل “ماريا ستيواردا” هذه راح يعتبر ثاني موسيقيي الأوبرا في إيطاليا بعد فردي.

ماري الأخرى

كما قلنا منذ بداية هذا الكلام إذاً، ها هو ذا فكتور هوغو بعد شيلر بزمن وبدلاً من أن يحاول التفوق على هذا الأخير يتجه صوب ماري تيودور ليكتب مسرحية في خمسة فصول عن حياتها وهو يعرف مسبقاً أن مسرحيته محكومة بأن تعيش في ظل مسرحية شيلر. فهو كان يعي منذ البداية أن العناصر المأسوية في مصير ماري ستيوارت أكثر أهمية بكثير من تلك التي تسم حياة ماري تيودور. لكنه لم يتردد في خوض التجربة ولأسباب لا شك تفسرها قراءة مسرحيته وليس فقط مسارات التاريخ الحقيقي لكل من المرأتين. ولعل علينا أن نقول إن هوغو على رغم معرفته من كثب بعمق الأفكار التي تجمع بين شكسبير وشيلر وتفسر دنوهما من التاريخ دنواً فجائعياً حاداً، لم يجعل من هذا التوجه لا هدفه ولا أسلوبه على رغم أن ظاهر الأمور يقول ذلك. كان اهتمام هوغو منكباً على أمور أخرى تماماً ويربط بين قدرته الهائلة على استخدام اللغة والتاريخ معاً لأفكار تتماشى مع فكره السياسي، وهو الذي إلى كونه شاعراً وكاتباً مسرحياً وناثراً، كان باحثاً متعمقاً في التحليل السياسي بل حتى، في هذا المجال الأخير أقرب ما يكون إلى المناضل السياسي. وهوغو كتب “ماري تيودور” قبل سنوات قليلة من رحيله في وقت لم يكن فيه في حاجة إلى أمجاد أدبية إضافية. بل كان في حاجة إلى أن يجعل مما يكتب وهو على وشك الرحيل والأزمان تتحول أمام ناظريه إلى عوالم جديدة سيكون هو نذيراً – أو بشيراً، بحسب وجهة النظر- بها. ومن هنا لم يكن بعيداً من السعادة والرضا حين اعتبر مؤرخون مناوئون له عادة، وإذ قدمت ماري تيودور خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حياته بنجاح شعبي كبير، حينما قالوا “منتقدين إياه” “يبدو أن الكاتب الكبير قد استنفد ما لديه من قدرات إبداعية فراح يكتفي بمسرحة الأفكار السياسية العشوائية التي ينضح بها”، مؤكدين أن هذا لم يكن دأبه في الماضي حتى حين عالج حياة ونهاية كروميل في مسرحيته المعروفة بهذا العنوان “وكنا نعتبرها من أكثر نتاجاته المسرحية تسيساً!!”.

القساة وحدهم فهموه

في رأيهم كان هذا الحكم شديد القسوة أما هو فرأى أنه في جانبه الأخير في الأقل فهم حقيقي لغايته المتوخاة. أما في ما يتعلق بـ”استنفاده ما لديه من إبداع” فإنه حين نقل إليه لم يكن رده سوى قهقهة صاخبة. لماذا؟ ببساطة لأنه كان واثقاً من أن قدرته الإبداعية وخلاصة مبادئه الاجتماعية قد تضافرتا هنا معاً لتمليا عليه ذلك العمل الذي يتحدث عن “مأساة من نوع آخر” هي مأساة تلك المرأة ربيبة القصور التي تجد نفسها متورطة في مؤامرات وألعاب عروش سادت المملكة البريطانية في صراعات على السلطة بين عديد من ورثة هنري الثامن. بل في الحقيقة أن ماري كانت محور كل تلك الألاعيب التي استشرت بين مجموعة من العشاق والنبلاء الذين تمتد تحالفاتهم وولاءاتهم إلى دول الجوار ومنها بالتحديد فرنسا وإسبانيا، ومن بين بيادقها من هو حبيب للملكة وعشاق لمنافساتها وزوج لا تريده وصراعات غيرة وتحد وما إلى ذلك. من دون أن ننسى أن نضيف إلى هذا كله فضائح وعلاقات ميلودرامية علها تجد مكانها تماماً في إرث ذلك الملك الذي سيكون هو بدوره محوراً لإبداعات لا تقل قوة عن تلك التي تناولت ماري ستيوارت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مجابهة بين عالمين

لكن هوغو لم يكن من النوع الذي يكتفي بذلك النوع من التأريخ في أدبه للصراعات والأحداث ومن هنا اختلاف مسرحيته هذه، وبالتحديد من خلال دنو شديد الحداثة حتى بالنسبة إلى أزمتنا هذه، وذلك في ما يتعلق بكونه قد خلق في قلب مسرحيته نوعاً من تجاور بين عالمين ربما لم يسبقه أحد إلى وضعهما معاً في بوتقة واحدة لكن كثراً سيسيرون على خطاه من بعده بالتأكيد. فهوغو وفي مقابل عالم صراعات القصور الذي سيلوح ممتداً لاحقاً حتى زمن التلفزة ومسلسلاتها من خلال مسلسل “لعبة العروش” في مواسمه الثمانية، حرص على أن يرسم صورة عالم آخر ربما استقاه أصلاً من ذلك العالم الذي كان صوره بإبداع لا يضاهى في روايته “البؤساء” العابرة للأزمان والأنواع الفكرية والأدبية. صحيح أن العالمين، عالم القصور والعروش، وعالم العمال والشعب البائس تحديداً عشية الثورة الصناعية وتفاقم وصول الريفيين مع انهيار الزراعة والمناجم إلى المدن ومنها طبعاً لندن التي قد لا يتجابه فيها العالمان، لكن حضورهما كشخصيات حقيقية لا يكتفي البؤساء من بينها بالتصفيق والتهليل لسادتهم بل يرقبونهم بلا مبالاة ظاهرية وعلى الأرجح استعداداً لأزمنة لم يحل أوانها بعد. لكن ذلك الأوان سيحل بالتأكيد ولو من خلال نظرات البائسين التي يكاد صمتها يقول كثيراً كما من خلال المتسببين في بؤسهم الذين ينظرون بحذر وربما بقدر ما من الخوف إلى عالم البؤساء ويحسبون له حساباً.

والحقيقة أن هاتين النظرتين الجماعيتين اللتين تتجابهان في المسرحية إنما يكمن فيهما جوهر ما أراد فكتور هوغو (1802 – 1885) قوله كواحدة من وصاياه السياسية – الإبداعية الكبرى. ومن لا يدرك هذا قد يكون عليه مراجعة ما نسب إلى هذا الكاتب الكبير في سياق تكليف “متحف غرفين للتماثيل الشمعية” لتمثاله أن ينطق بها كوداع للقرن الـ20 وإعلان عن مجيء الأزمنة الجديدة قبل ربع قرن من يومنا هذا. وكان خطاباً يبدو وكأنه لا يتحدث إلا عما أراد قوله في…”ماري تيودور”.