Home سياسة “ماكبث” بولانسكي على ضوء مجزرة مانسون التي قلبت حياته

“ماكبث” بولانسكي على ضوء مجزرة مانسون التي قلبت حياته

107
0

من المعروف والمتوافق عليه عادة في تاريخ المسرح أن مسرحية شكسبير “ماكبث” تعتبر في تاريخ الخشبة العمل الأكثر عنفاً ودموية على الإطلاق. وهي مكانة تعزى لها إلى درجة أن كارل ماركس وفي نص له حول الشر والعنف يذكرها بصورة واضحة في كلامه عن “ضرورة الشر كجزء مكون من تفاصيل الحياة”، بيد أن لا شكسبير ولا كارل ماركس كان في وسعهما أن يتصورا وصفاً للعنف المستشري في “ماكبث” يصل إلى ما يسم الاقتباس السينمائي الذي حققه المخرج البولندي الأصل رومان بولانسكي في أفلمته المسرحية نفسها أواخر سنوات الـ60 من القرن الـ20. ولا يطبع حتى ذلك البعد الذاتي إلى الحدود القصوى الذي أضفاه على اقتباسه لها. وربما من دون أن يقصد ذلك. ففي نهاية الأمر من المؤكد أن بولانسكي الذي كان يحمل مشروعه منذ سنوات في ذلك الحين، لم يتورع حين قيض له أن يحققه في عام 1971 لم يفعل ذلك في نهاية الأمر إلا “على ضوء” المذبحة التي طاولته في الصميم وقضت على زوجته الفاتنة الهوليوودية شارون تيت وهي حامل بطفلهما، في سياق الجريمة التي ارتكبتها طائفة تشارلز مانسون “الهبية” قبل ذلك بأعوام قليلة ذات مساء حين قامت بغزوتها الشهيرة على منزل الثنائي بولانسكي/ تيت في غياب الزوج وذبحت خلالها شارون وضيوفها بجريمة جماعية روعت أميركا والعالم.

فعل مجاني

وربما كان أمر ما في تلك الجريمة الجماعية أنها ارتكبت بصورة مجانية من دون أن يكون رومان بولانسكي نفسه حاضراً، فبقيت منها لديه دلالاتها ومستوى الشر والعنف اللذين أوصلا مجموعة من الشبان الأميركيين إلى اتخاذ القرار بارتكاب ما سمي حينها بجريمة العصر. وكان لافتاً كيف أن بولانسكي أفاق حينها على حلمه القديم بأفلمة المسرحية الشكسبيرية، ليس مندفعاً وراء أحداثها المعروفة التي كانت قد أفلمت مرات كثيرة من قبل، وأوصل أورسون ويلز حضورها على الشاشة إلى ذروة غير مسبوقة، قبل أن يفعل الياباني الكبير آكيرا كوروساوا ذلك، ناقلاً أحداث التحفة الشكسبيرية إلى عصور يابانية سابقة في فيلمه البالغ العنف هو الآخر “عرش الدم”. ولئن كان دائماً ثمة سؤال عما إذا كان سيمكن لفن من الفنون أن يتجاوز مسرحية شكسبير الخالدة هذه في تصوير العنف والدم على الخشبة أو حتى على الشاشة بصورة تتجاوز ما فعله شكسبير نفسه الذي لم يتجاوز في مطلق الأحوال، حدود ما كان يعتبر معقولاً ومقبولاً مثلاً، في اكتفائه بجعل قتل ماكبث للملك دانكان يتم خارج المشهد، ويكتفى بالحديث عنه كجزء من التحريض السابق الذي سيطر على كل لقاء بين الليدي ماكبث وزوجها من حول ضرورة ارتكاب تلك الجريمة للوصول إلى العرش تحقيقاً لنبوءة الساحرات الثلاث كما نعرف، فإن بولانسكي، وبالتأكيد تحت وطأة المزاج العام الذي كان يعيشه شخصياً بعد ما يقارب عامين من قتل طائفة مانسون لزوجته الحامل وضيوفها، وكان مزاجاً دموياً من الواضح أن ما فاقم من تأثيره عليه كون الجريمة حصلت في غيابه كما أشرنا. وكما سيقول النقاد، والمؤرخون لاحقاً، من المؤكد أن السينما، الهوليوودية في الأقل لم تكن قد صورت العنف على هذه القوة من قبل… لكنها ستصوره بأقوى من ذلك من بعد وسيعلن معظم مصوريه أنهم إنما يدينون في ذلك، للمزاج الذي استحكم برومان بولانسكي إثر الجريمة المروعة. ففي نهاية الأمر يجب أن نتذكر هنا أن السينمائي المعني نفسه وفي معرض إجابته عن أسئلة صحافية تتعلق بهذه النقطة تحديداً إثر عرض الفيلم، قال إنه “لولا تلك الجريمة التي طاولتني شخصياً، ما كنت لأجرؤ على إيصال سينمائيتي إلى ذلك القدر من العنف غير المسبوق في عالم السينما الهوليوودية”.

ذاتية لها ما يبررها

مهما يكن، من المؤكد هنا أن بولانسكي في تعمقه في ذلك البعد الذاتي لـ”ماكبث” قد حقق لشكسبير نفسه حلماً قديماً يتعلق بما كان يرغبه دائماً في أن تشاهد مسرحياته وتقرأ على ضوء ذلك البعد الذاتي الذي كثيراً ما دنا منه المتعاملون مع تلك المسرحيات بكثير من التردد حتى كان القرن الـ20 الذي بات رائجاً فيه، ولكن كما اقترح علينا كبار الباحثين في مسرح شكسبير وربما على رأسهم البولندي يان كوت، ولكن تحديداً على ضوء مقاربة فرويد نفسه لـ”المسألة الشكسبيرية” ببعض الجرأة. وهي الجرأة التي سيوصلها بولانسكي إلى أقصى مستوياتها، غير أن هذا الأخير لن يكتفي هنا بالجرأة في التفسير بل سيتجاوز ذلك في فيلمه هذا ليجدد حتى في اللغة السينمائية وربما من دون أن يقصد ذلك. فهو في غمرة إحساسه بأنه يقدم هنا فيلماً شديد الذاتية سيمكن اعتباره منتمياً إلى “سينما المؤلف” على رغم من شكسبيريته المطلقة، شعر نفسه متحرراً تماماً من أية التزامات تتعلق بـ”الأمانة الفنية” وقوانين الإبداع، ليقدم على هرطقات أسلوبية ما كان يمكن لأحد حينها أن يجرؤ على الدنو منها. ولعل في مقدمها أنه وللمرة الأولى في أي تقديم لهذه المسرحية، على الخشبة أو على الشاشة جعل ماكبث والليدي ماكبث أصغر سناً بكثير مما كان يفترض بهما أن يكونا، وهدفه من ذلك، كما قال بنفسه، التركيز على القسوة القصوى لجريمتهما المشتركة، إذ “كلما كان المجرم المجاني أصغر كان وقع الجريمة أفدح” ناهيك بأن جماعة “هبيي” مانسون كانوا شباناً وشابات خارجين لتوهم من سن المراهقة وهو ما لم يكن حال الزوجين ماكبث بالطبع.

أعظم كتاب السيناريو

لكن ذلك لم يكن بالطبع كل شيء. فالحال أن المخرج الذي كان بالكاد قد أفاق من هول مأساته الخاصة حينها، قرر أن يجعل من هذا الفيلم نقطة انعطافية، ليس في تاريخه السينمائي الشخصي، بل أكثر من ذلك، في تاريخ أفلمة شكسبير الذي كان أورسون ويلز قد وصفه بأنه “أعظم كاتب للسيناريو في تاريخ فنون الفرجة”، وهكذا راح يستفيد من تجريبية مطلقة قادته إلى تصوير فيلمه في أماكن طبيعية مشتغلاً في تفاصيل التفاصيل على أزياء وديكورات وأثاثات تلك المرحلة، واصلاً إلى حد الإمعان في استخدام كل ما هو متاح تقنياً من استخدام للمؤثرات البصرية والصوتية الخاصة للتعبير بما يقارب الجنون عن هلوسات ماكبث في تنبئه بالأحداث المقبلة. ولا سيما في تلك المشاهد التي بدت شديدة القرب من المؤثرات الخاصة الغارقة في تخيلات ومنها خصوصاً المشهد النهائي الذي يصور رأس ماكبث تدور في مكانها وقد انفصلت الرأس عن الجسد انفصالاً تاماً، حتى وإن كان المخرج قد أصر على جعله مشهداً بعيداً من الرعب الخالص.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بولانسكي يعترض

هنا قد لا يكون مفر من العودة لما قاله بولانسكي عن فيلمه هذا، ولكن بعد سنوات من عرضه وإذ “راحت السكرة وعادت الفكرة” كما يقول المثل الشعبي وبدا أنه تجاوز تلك الأوضاع النفسية والمزاجية الخاصة التي “سهلت” للنقاد والمؤرخين ربط تاريخية الفيلم بالمأساة الدامية التي عاشها هذا المخرج في أميركا أولاً ولكن في أوروبا أيضاً. فلئن كان صاحب “تشاينا تاون” و”عازف البيانو” وتحف سينمائية تبقى في الذاكرة وتعتبر نوعاً من الحل الوسط بين سينما المؤلف والسينما الشعبية، قد عرف كيف يجعل من أفلام كثيرة له، علامات في السينما المتقدمة منذ بداياته البولندية وصولاً إلى السينما الفرنسية التي يحققها منذ سنوات بنجاح لافت وغالباً ما تبدو وكأنها إعادة نظر سينمائية في التاريخ الأقرب إلينا، فإنه دائماً ما أبعد سينماه هذه عن ذاتيته. ومن هنا ما إن انقشع ضباب مأساته العائلية حتى أعلن بوضوح أنه لم يستسغ أبداً ما أفتى به مؤرخو السينما ونقادها من أن “ماكبث” كما حققه إنما كان نوعاً من “التطهير” (كاتارسيس) حرره من تأثيرات المجزرة، واصفاً ما قاله النقاد في هذا الصدد بـ”الترهات الحمقاء”، مضيفاً أن الاهتمام كان ينبغي أن يتوجه هنا ناحية شكسبير فالحكاية حكايته والفيلم فيلمه والعنف عنفه، مضيفاً أن من الخطل النظر إلى الفيلم باعتباره تعبيراً عن تاريخه الخاص، بل ربما في أفضل الأحوال “عن طفولتي التي تكاد تنتمي إلى العصور الوسطى في أقرب حالاتها إلى المنطق السليم”. وبقي أن نعرف هنا أن النقاد اعتبروا هذا التصريح “سقطة أخرى من سقطات بولانسكي”.