Home سياسة فون كيسرلنغ الذي درس حسنات الأمة الأميركية وسيئاتها على ضوء التحليل النفسي

فون كيسرلنغ الذي درس حسنات الأمة الأميركية وسيئاتها على ضوء التحليل النفسي

31
0

“هو ليس في أحسن أحواله أكثر من أوروبي ذي أخلاق وعادات زنجية وروح هندية”. فمن هو هذا الأوروبي الخالي في نهاية الأمر من أية سمات أوروبية حقيقية؟ من هو هذا الأوروبي شبه الأوروبي الذي، وعلى عكس ما قد يمكن أن يتصور البعض لا يوصف هنا بطريقة إيجابية ولغايات معقولة وممكنة، بل وصفاً غارقاً في السلبية ولغاية تتسم بقدر كبير من الاستنكار؟

إنه الفرد الأميركي بصورة إجمالية، وهنا حين يدور الحديث من حول الإنسان الأميركي لا بد أن نفهم أن المقصود هو أميركا كلها، أميركا الشمالية تلك التي لا يتوقف الأوروبيون وغير الأوروبيين عن توصيفها انطلاقاً من أحكام تتسم دائماً بشعبوية جعلت كثراً من الأميركيين يطرحون سؤالاً بات خالداً: لماذا تراهم يكرهوننا؟ لماذا لا يرتدعون عن إدانتنا وشتمنا؟

غير أن صاحب العبارات التي بدأنا بها هذا الكلام هنا لم يكن شعبوياً ولا واحداً من أولئك الكتاب الصاخبين الذي يتورعون ولدى كل مناسبة عن أن يأخذوا على أميركا مآخذ باتت لا تعد وتحصى وتعتبر من المسلمات، بل هو الكاتب والمفكر الألماني الأرستقراطي هرمان فون كيسرلنغ الذي وضع كتاباً في مئات الصفحات سرعان ما اعتبر في زمنه الأشهر بين كتبه التي تعد بالعشرات، ليقدم فيه تلك المرافعة ضد أميركا تحت عنوان “أميركا تحليل نفسي للعالم الجديد” وترجمه الفرنسيون بعنوان أبسط هو “التحليل النفسي لأميركا”.

أميركا خانت حلمها

ولئن كان من الواضح أساساً أن ما يأخذه فون كيسرلنغ على أميركا ليس هيمنتها على الشعوب وسياساتها العسكرية التوسعية وخطل سياساتها الخارجية والظلم المستشري فيها الواقع على الفقراء والأقليات، وما يروى حول “إبادة” السكان الأصليين، فإن علينا أن نتنبه كيف أن المؤلف يدين أميركا التي يعنيها من موقع آخر تماماً: وبالتأكيد من موقع يرتبط بـ”الحلم الأميركي” من ناحية ومن ناحية أخرى بالقيم المادية وحثالات الأزقة التي سيخبرنا مارتن سكورسيزي لاحقاً أنها هي ما صنع أميركا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن هنا فإن المرافعة التي يقدمها الكتاب تبدو شديدة القسوة ضد ما كان يطلق عليه حينها تعبير “حضارة العالم الجديد”، بل إن فون كيسرلنغ ومنذ مفتتح كتابه ينكر إنكاراً تاماً وجود حضارة يمكن أن تعزى إلى ذلك العالم. ففي رأيه لا يمكن أن يكون الأميركي ذلك الكائن المتفوق الذي كان المتحدثون عنه من الكتاب والباحثين يعتبرونه إنسان العصور الحديثة الآتي ليفرض حضوره بوصفه “سوبرمان الأزمنة الجديدة” بل هو ليس أكثر من كائن منحط لا يتوقف عن السقوط إلى أدنى بكثير مما أتاحته له جذوره الأوروبية وتتيحه له الآن الثروات المادية في العالم الجديد الذي استوطنه، من تقدم وسمو ورخاء وإمكانات.

القيم الضائعة

بالنسبة إلى فون كيسرلنغ (1880 – 1946) عجزت أميركا حتى الآن –وعلى الأقل حتى نهاية ثلاثينيات القرن الـ20 حين نشر الكتاب للمرة الأولى– عن استبدال مثلها اللاهوتية القديمة، القائمة أصلاً على مزيج غير منطقي من الطهرانية والليبرالية، بتلك القيم التي كانت تعيش عليها على الأقل منذ بدايات القرن الـ18 عند ظهورها بوصفها أمة على الساحة العالمية، لكنها –في رأي الكاتب– سقطت تماماً الآن و”باتت أثراً بعد عين”، ما يعني بشيء من الاختصار أن أميركا “تعيش اليوم من دون قيم”، ولكن لماذا؟ باختصار أيضاً “لأن الروح الأميركية تركت نفسها تغرق في مستنقعات التقدم المادي الذي بنت عليه وانطلاقاً منه كل ما تعتبره فلسفتها الخاصة” ومن هنا “كان من الطبيعي أن يسود في حياتها السعي المحموم في سبيل الحصول على الراحة المادية التي من المؤكد أنها لا تهم سوى كينونتها الجسدية ما يؤدي حتماً إلى الهبوط بالكينونة الداخلية فينا إلى أسفل السافلين”.

 

وعلى سبيل المثال يأخذ مؤلف الكتاب هنا النزعة الذرائعية المرتبطة بفلسفة النفعية، و”هي نتاج أميركي خالص كان من الصعب العثور على ما يماثله لدى أي مجتمع من المجتمعات”، فهذه النزعة “تقبض على الإنسان لتحوله إلى مجرد حيوان داجن بين الحيوانات، تجعله كائناً يفتقر إلى حرية الاختيار الحقيقية والقدرة على الحكم على الأمور، كما تجرده من أية استقلالية روحية”. ومن هنا نلاحظ كما يشرح لنا فون كيسرلنغ “كيف أن مجمل الأميركيين باتوا وبرضاهم معتادين على العيش تبعاً لأسلوب معياري واحد. أسلوب تهيمن عليه أحادية قيمية تكاد تشمل أدق دقائق حياتهم كجمع وكأفراد”.

أما إذا تبقى لدى الفرد الأميركي شيء من النزوع ولو الهامشي صوب الروح، فإن هذا النزوع لن يكون أكثر من شكل شديد البدائية كما حال المنتسبين إلى تلك التيارات الخلاصية التي يعتبر أبرزها اليوم تيار المسيحية العلموية وهو تيار لم يكن موجوداً خلال حياة فون كيسرلنغ لكنه يبدو في كتابه حاضراً بشكل استباقي من خلال حضور ما سبقه من تيارات مشابهة وجدت منذ بدايات تأسيس الفكرانية الأميركية على أية حال، ويشتهر بكون عضويته تضم اليوم نجوماً سينمائيين شهيرين من طينة توم كروز وجون ترافولتا وهو تيار “فضحه” المخرج بول توماس أندرسون في فيلمه البديع “المعلم” الذي ذكر كثر قبل سنوات بكتاب فون كيسرلنغ، الذي يخبر من ناحيته أن هذه التيارات لا شأن لها في الواقع لا بالكنيسة ولا بالعلم أو بالفلسفة لأنها ليست أكثر من ممارسات جوهرها “مركانتيلي” يقوم على التضليل وضروب شتى أنواع الكسب المالي غير المشروع.

أزواج وزوجات

ولعل من طرائف كتاب فون كيسرلنغ كونه يتوقف مطولاً عند “ظاهرة” يخبرنا أنها تكاد تكون من أحط سمات البعد “الحضاري” لأميركا: وهي مرتبطة بما يسميه الكاتب “وضعية الأزواج الأميركيين” الذين ينعى عليهم “خضوعهم المطلق لزوجاتهم ورعبهم أمامهن وهيمنة الأطفال على الحياة العائلية”، لكنه مع ذلك لا يفوته أن ينعى أيضاً وضعية المرأة الأميركية مؤكداً أنها باتت في العمق متخلفة تماماً عن المرأة الأوروبية، بل عن المرأة في معظم أرجاء العالم.

وبشكل إجمالي يمكن القول هنا إنهم لم يكونوا مخطئين أولئك الذين رأوا أن نظرة فون كيسرلنغ إلى أميركا لم تكن متفائلة على الإطلاق تفاؤل نظرة ألكسي دي توكفيل إليها. ولعل ما يبدو الأكثر سوداوية فيها أن الكاتب لم يستخلصها من تأمل نظري بل من معاينة ميدانية. فهو كان معروفاً بكونه، إلى جانب اهتماماته العديدة، رحالة شغوفاً ودؤوباً جال في أنحاء العالم ولا سيما في أميركا ويبدو حكمه عليها وكأنه يعبر عن خيبة أمل شخصية بعد أن كانت قراءته لمؤلفات أوروبية تدرس ذلك العالم الجديد قد وضعته على تماس مباشر مع خصائص تجديدية أميركية ملأته حماسة أول الأمر غير أن “الواقع الأميركي الذي استكشفته بنفسي أزال الغشاوة عن عيني مكذباً كل توقعاتي الإيجابية” كما قال لاحقا.

ولا بد من الإشارة هنا على أية حال إلى أن المعلقين على كتاب فون كيسرلنغ ومواقفه حتى وإن كانوا قد وافقوه على كثير مما ذهب إليه قالوا في المقابل أنه “سكت عن منجزات أميركية كثيرة ولا سيما في المناطق النائية” حيث كان لا بد له أن يلاحظ “ولادة إنسان جديد يستجيب لتوقعات الكاتب الذي كان بثقافته الخاصة قد جعل من نفسه فيلسوفاً غير أكاديمي يدعو إلى نوع من المصالحة مع الروح في القرن الـ20 الذي كان رأى باكراً وعن حق أنه يفتقر إلى أبعاد روحية حقيقية”.

كان هرمان فون كيسرلنغ المولود في لاتفيا البلطيقية من أسرة ألمانية فيلسوفاً اجتماعياً ينتمي إلى الثقافة الألمانية ولا سيما عبر اهتمامات فكرية كانت لها شعبيتها الكبيرة خلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين. وهو بعد أن درس الأدب والفلسفة في عدد من الجامعات الأوروبية وأتقن عدداً من اللغات “عين” نفسه فيلسوفاً ثم راح يطوف في العالم ناشراً فلسفته الروحية جامعاً تلك المواد التي مكنته من إصدار عدد كبير من كتب كان من أبرزها، إلى جانب كتابه هذا عن أميركا، “يوميات سفر فيلسوف” (1919) و”الخلود” (1907) و”استعادة الحقيقة” (1927) و”تأملات في أميركا الجنوبية” (1932).