Home سياسة حين يقع الصحافي ضحية ألاعيب رجال السياسة

حين يقع الصحافي ضحية ألاعيب رجال السياسة

7
0

طالبت السفيرة الأميركية لدى روسيا لين تريسي بالإفراج عن إيفان غيرشكوفيتش مراسل صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية الذي اعتقلته السلطات الروسية نهاية مارس (آذار) 2023 بتهمة التجسس.

وكانت السفيرة الأميركية نشرت في الذكرى الأولي لتاريخ اعتقال غيرشكوفيتش في يكاتيرينبورج صورة من مذكرتها التي أرسلتها إلى وزارة الخارجية الروسية بهذا الصدد، وتقول فيها “إن الأمر يتعلق باستخدام المواطنين الأميركيين كبيادق لتحقيق الأهداف السياسية، كما يفعل الكرملين في حال المواطن الأميركي بول ويلان”.

وأضافت تريسي في بيانها الذي بعثت به إلى بعض الصحف الروسية أن “الاتهامات الموجهة ضد إيفان غير صحيحة بشكل قاطع”، وختمت رسالتها بقولها إنه “إذا كان لدى الكرملين أية رغبة في إنقاذ سمعة روسيا واحترامها الدولي، فيجب عليه التصرف بشكل عادل وفوري لإطلاق إيفان وبول”، في إشارة إلى بول ويلان المواطن الأميركي المحكوم عليه بالسجن 16 عاماً بتهمة التجسس.

بوتين وافق على استبدال نافالني

ودحضت صحيفة “وول ستريت جورنال” الاتهامات الموجهة ضد غيرشكوفيتش، ونقلت ما قالته السلطات الأميركية حول أن اعتقاله “لا أساس له من الصحة”.

وكشف مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان عن أن واشنطن تتفاوض مع موسكو في شأن تبادل السجناء، بمن فيهم غيرشكوفيتش، كما أكد الكرملين أن هناك اتصالات تبادل معينة بين روسيا والولايات المتحدة، لكن موسكو لا تنوي تناولها على الملأ.

وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أعلن أخيراً استعداد بلاده للحوار مع الولايات المتحدة لبحث المسائل المتعلقة بتبادل المسجونين استناداً إلى ما جرى الاتفاق حوله بين الرئيسين بوتين وبايدن خلال لقائهما في جنيف في يونيو (حزيران) 2021، بحسب ما نشرته وكالة أنباء “تاس” الرسمية.

وكتبت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن “تبادل السجناء بين روسيا والغرب يمكن أن يكون متعدد الأطراف، إذ تسعى موسكو إلى عودة فاديم كراسيكوف المحكوم عليه بالسجن مدى الحياة في ألمانيا عقاباً على تورطه في اغتيال اثنين من المواطنين الروس في برلين”، ووفقاً لمصادر “وول ستريت جورنال” فإن المفاوضات في شأن تسلّم كراسيكوف تلعب دوراً رئيساً في الجهود الأميركية لإطلاق الأميركيين المعتقلين في روسيا، وهما غيرشكوفيتش والمحارب القديم في مشاة البحرية الأميركية بول ويلان.

وكان بوتين أشار إلى أن عملية استبدال نافالني، الذي نطق اسمه للمرة الأولى منذ ظهوره في صفوف المعارضة، كانت واردة قبل وفاته في أحد سجون شمال سيبيريا، كما أكد الرئيس الروسي أن تبادل غيرشكوفيتش ممكن “مع التحرك المقبل من جانب الطرف الآخر”، وأشار إلى أن أجهزة الاستخبارات الروسية والأميركية على اتصال في ما بينها حول هذه المسألة. 

وفي معرض حديثه مع الإعلامي الأميركي تاكر كارلسون عاد بوتين وتناول هذا الموضوع بقوله، “لقد قمنا بكثير من مبادرات حسن النية، ويبدو لي أننا استنفدنا كل الحدود ولم يستجب أحد على الإطلاق لمبادرات حسن النية التي قمنا بها بإيماءات مماثلة، لكننا من حيث المبدأ مستعدون للقول إننا لا نستبعد احتمال أن نتمكن من القيام بذلك في حال التحرك المناسب من جانب شركائنا”.

دانيلوف أول ضحايا الحرب الباردة

ولعله من المناسب اليوم التوقف عند كون غيرشكوفيتش أول صحافي أميركي منذ عام 1986 يحتجز في روسيا بتهمة التجسس، منذ اعتقلت السلطات السوفياتية السابقة الصحافي الأميركي دانيلوف الذي لم تتعد فترة احتجازه في سجون موسكو أكثر من 13 يوماً، وكان الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريجان كثف اتصالاته مع الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف بما سمح لاحقاً بإتمام صفقة تبادله مع مواطن سوفياتي يدعي جينادي زاخاروف اعتقلته السلطات الأميركية في نيويورك.

وكانت عمليات “تبادل الجواسيس” جزءاً من الحرب الباردة بدءاً من فبراير (شباط) 1962، منذ قامت الولايات المتحدة بتبادل العقيد ويلي فيشر الذي كان يقضي عقوبة السجن 30 عاماً، وعرف نفسه باسم رودولف أبيل، بديلاً عن فرانسيس غاري باورز قائد طائرة التجسس “يو-2” التي أُسقطت فوق جبال الأورال، وجرى إبلاغ الخبر إلى الزعيم السوفياتي الأسبق نيكيتا خروشوف خلال وجوده في احتفالات أول مايو (أيار) وسط الميدان الأحمر.

 

 

وكانت المفاوضات طويلة وصعبة بمشاركة أشخاص رسميين وغير رسميين، إضافة إلى وكالة المخابرات المركزية والـ “كي جي بي”، وشارك فيها جهاز المخابرات الألماني الشرقي “شتازي”، إلى أن تم التبادل في فبراير عام 1962، وبعد ذلك لم يصبح الجواسيس وحدهم، بل المنشقون السوفيات أيضاً، أوراق مساومة، واعتقلت موسكو صحافياً أميركياً تورط في تجاوز “الخط الأحمر” مما أوقعه في شباك الجاسوسية، وهذا ما حدث في سبتمبر (أيلول) 1986 للصحافي الأميركي نيكولاس دانيلوف، إذ “أرسلوا إليه من سلمه مظروفاً مليئاً بالأوراق لتتوقف إلى جواره حافلة صغيرة قفز منها ستة أشخاص قاموا بتقييد يديه”، بحسب روايته لاحقاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وسرد دانيلوف بعضاً من قصته التي نقلها عنه صحافي روسي يعمل في وسيلة إعلام أجنبية محظور نشاطها في روسيا بعد إدراجها ضمن “قائمة العملاء الأجانب”، وقال إن هناك من اقتاده إلى “سجن ليفورتوفو” ليستجوب من قبل العقيد سيرجييف، الذي قال له، “كما تعلم يا سيد دانيلوف أنت رهن الاعتقال لأننا نعتقد أنك متورط في التجسس”.

وبالطبع كان المظروف بما فيه بين يديه، أعطاه له صديقه ميشا، وكانت هناك مقتطفات من صحف آسيا الوسطى، ولكن كانت هناك أيضاً صور فوتوغرافية وأخرى للجنود في أفغانستان، وأيضاً صورة لبطاقة واحدة صُنفت على أنها “سرية للغاية”.

وكان كل هذا بالطبع من تدبير “كي جي بي”، على حد قوله، وأدرك دانيلوف أثناء الاستجواب الأول أن ما حدث كان إجراء انتقامياً لاعتقال جاسوس سوفياتي في نيويورك وهو جينادي زاخاروف، وأضاف “لقد قالوا فقط إنه لا يهم، وأن هذا أمر منفصل ولا علاقة له بزاخاروف، لكن لديهم أدلة على ما ارتكبه من عمليات غير قانونية في الاتحاد السوفياتي، وهذا أمر خطر للغاية، وربما ينتهي، كيف سيكون ذلك؟ إنها عقوبة الإعدام”. 

الفرق بين ريغان وبايدن

وبفضل تحركات زوجة نيكولاس دانيلوف وتدعى روث، تدخل الرئيس ريغان في الأمر وطالبت الصحافة الأميركية باتخاذ إجراءات لإطلاق الصحافي وشككت في قمته مع غورباتشوف في ريكيافيك، وعاد دانيلوف ليقول إنه قضى في السجن 13 يوماً، وأشار إلى أن هذه المدة ليست طويلة بطبيعة الحال، لكنها تصبح مخيفة إذا ما كان المجهول وراء كل دقيقة من دقائقها.

لكن ما حدث يؤكد الهوة الكبيرة التي تفصل بين سلوك الرئيس الأميركي الأسبق ريغان كرجل دولة، والرئيس الحالي جو بايدن الذي ثمة من بات يصنفه كرجل سياسة من أنصار التفرغ لتوجيه الشتائم لنظيره الروسي بوتين، بحسب تقديرات مراقبين في موسكو.

وكان جينادي زاخاروف مثُل أمام محكمة أميركية حيث جرت إدانته وصدر قرار طرده من الولايات المتحدة مع حظر عودته إليها مدة خمسة أعوام، وفي اليوم نفسه أطلق دانيلوف في موسكو التي غادرها إلى فرانكفورت.

وبما أن واشنطن اعتقدت أن لها الحق في الحصول على تعويض إضافي، فقد أُطلق المنشق السوفياتي يوري أورلوف وزوجته ليسافرا إلى الغرب، مثلهما في ذلك مثل كثير من المنشقين الذي تقرر منحهم الفرصة نفسها للسفر إلى الغرب لتلقي العلاج.

ودعا رونالد ريغان زوجة دانيلوف روث إلى البيت الأبيض وقدم لها قائمة بأسماء الأشخاص الذين طلب الجانب الأميركي السماح برحيلهم عن الاتحاد السوفياتي، وسألها عما إذا كانت ترغب في إضافة أي أسماء فكتبت اسم عالم الوراثة ديفيد غولدفارب، وكان الأول في القائمة أندريه ساخاروف وقرينته يلينا بونر اللذين لم يحظيا بحق المغادرة، لكن تقييد إقامتهم في مدينة غوركي كان انتهى قريباً.

وهكذا أغلقت قضية دانيلوف على نحو اتسم بهدوء شديد، وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 1986 عُقدت القمة التاريخية بين غورباتشوف وريغان في ريكيافيك، وكان دانيلوف واحداً ممن سافروا إلى هناك لتغطية القمة، لكن الجانب السوفياتي أوضح أنه لا يريد رؤيته في المؤتمرات الصحافية التي يعقدها غورباتشوف.

غورباتشوف وأعمال الرحمة

وبعد مرور عام قرر دانيلوف معرفة الأساس القانوني الذي بموجبه أنهيت قضيته الجنائية، وبناء على طلبه أرسلت وزارة الخارجية الأميركية مذكرة إلى وزارة الخارجية السوفياتية لتتلقى رداً يفيد بإغلاق القضية بمرسوم صادر عن مجلس السوفيات الأعلى لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية باعتباره “عملاً من أعمال الرحمة”.

وفي مايو (أيار) عام 1992 انتهت هذه القصة وجاء غورباتشوف إلى “جامعة هارفارد” لإلقاء محاضرة، وعندما حان وقت طرح الأسئلة تقدم دانيلوف نحو الميكروفون وقدم نفسه قائلاً “في عام 1986 عندما كنت تستعد للقاء الرئيس ريغان قُبض على عالم فيزياء سوفياتي في نيويورك، وانتقاماً لهذا اعتقل ’كي جي بي‘ صحافياً أميركياً في موسكو، وهذا الصحافي كان أنا، أود أن أعرف من في أجهزتكم واتته هذه الفكرة الرائعة؟”. 

 

 

وأجاب غورباتشوف أن ذلك كان من تراث الحرب الباردة وكان رداً على اعتقال زاخاروف في نيويورك، وراح يسرد بعض الأمثلة عن كيف يُطرد الدبلوماسيون البريطانيون من موسكو خلال فترة رئاسة السيدة تاتشر لمجلس الوزراء البريطاني رداً على قرارها طرد عدد مماثل من الدبلوماسيين السوفيات العاملين في السفارة السوفياتية في لندن، وقال دانيلوف إن “غورباتشوف لم يعتذر، وكان هناك أشخاص، وأنا منهم، يعتقدون أنه لم يُجب على سؤالي بكفاءة عالية”. 

المنشقون يعودون لشاشات القنوات الرسمية

ولعل كل ما تقدمت الإشارة إليه يمكن أن يكون تحذيراً من مغبة انسياق بعضهم في روسيا وراء محاولات تأليب السلطات الرسمية ضد من اختار “حرية الكلمة”، وأعرب عن انحيازه إلى “استقلالية الموقف والقرار” من المراسلين الأجانب المعتمدين في العاصمة الروسية، حتى وإن جانبه الصواب في تقديراته للشأن الداخلي في روسيا.

وكان التليفزيون الرسمي الروسي “روسيا-1” عاد للاستعانة في بعض نشراته الإخبارية بمن سبق ووقعوا في شرك خيانة الوطن من أمثال أولئك الذين غادروه إلى إسرائيل للانضمام إلى جيش الاحتلال واستيطان الأرض الفلسطينية التي تظل موسكو حتى اليوم تعترف بأنها أرض محتلة، وكان هؤلاء وعلى رغم مواقعهم القيادية السابقة في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية استفادوا من عفو غير معلن سمح لهم بالعودة لموسكو واحتلال شاشات قنوات التليفزيون الرسمية “روسيا-1″ و”روسيا-24” وغيرهما، لترويج سياسات التطرف التي دانها الرئيس بوتين ورفاقه بأعلى الصوت ووضوح القصد.

وكان ذلك في صدارة أسباب استبعادهم أعقاب “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023 واجتياح الجيش الإسرائيلي قطاع غزة، وها هم يعودون ثانية لسابق طبيعتهم بحكم أن الطبع يغلب التطبع، وإلى تأييد ومباركة ما ترتكبه الحكومة الإسرائيلية من جرائم في حق من بقي من الشعب الفلسطيني في غزة الجريحة.