Home سياسة رفح واستهداف الكيانية الفلسطينية | سياسة

رفح واستهداف الكيانية الفلسطينية | سياسة

19
0

لم يكن أحد ليتوقعَ بأي حالٍ من الأحوال أن رفحَ ستستقبل في نهاية العام 2023 أكثرَ من مليون و500 ألف نازح من مدن قطاع غزة الأخرى؛ بفعل القصف الهمجي لجيش الاحتلال الإسرائيلي للبيوت والمستشفيات والبنية التحتية في كافة مدن قطاع غزة.

في العام 2003 شاركتُ في محاضرة في كلية الهندسة بالجامعة الإسلامية بغزة حول هندسة شبكات المياه في قطاع غزة، وكانت المهمة أن نعرف عدد السكان المستقبلي بعد 20 سنة لمدينة رفح والذي سيتمّ تصميم شبكة المياه الافتراضية بناءً عليه، وكان عدد السكان حينها في رفح قرابة 150 ألف نسمة، وفيما اختلفت التقديرات بين الطلبة حول عدد السكان المستقبلي؛ بسبب وجود أكثر من طريقة فإنها تراوحت بين 200 ألف و300 ألف، ومع أن مثل هذه الحسابات تضع بعض الهوامش لأرقام الهجرة والنزوح، إضافة لنسب الزيادة الطبيعية للسكان، فإن سيناريو وجود مليون و500 ألف فلسطيني في رفح لم يكن ليخطر ببال أحد.

حاول الاحتلال في بداية العدوان من خلال المجازر ضد المدنيين والسماح بكَميات بسيطة من المساعدات في جنوب القطاع مع وعودات كاذبة بوجود أماكن آمنة، دفْعَ السكان نحو رفح، ومن ثم تنفيذ مخطط التهجير الذي فشل لأسباب عديدة، أهمها رفض الشعب الفلسطيني وتجذره بأرضه، رغم كل ألوان الموت والتجويع، ولذلك لجأ الاحتلال الذي بدا متخبطًا فيما يتعلق بمستقبل غزة بعد العدوان، إلى إحداث استهداف كل مظاهر السيادة، ومقومات وجود إدارة محلية في قطاع غزة، وخاصة في المكان الذي يتواجد فيه الكمّ الأكبر من السكان، وهو محافظة رفح.

الضغط الديمغرافي

تقع مدينة رفح في أقصى جنوب القطاع على الحدود مع مصر، وتبعد عن مركز مدينة غزة 35 كيلومترًا، وتبلغ مساحة مدينة رفح حوالي 63 كيلومترًا مربعًا، وتشكل 20% من مساحة القطاع، وكانت كثافة السكان في رفح قبل العدوان الإسرائيلي الأخير تعد من الأعلى في العالم، حيث كانت تقارب 5000 نسمة لكل كيلومتر مربع، والآن ارتفعت بعد أن وصل عدد الفلسطينيين المتواجدين فيها إلى مليون ونصف المليون لتصل إلى 27 ألف نسمة لكل كيلومتر مربع.

وبالنظر إلى أن هناك الكثير من الأماكن القريبة من الحدود الشرقية لرفح التي يسيطر عليها الاحتلال، ووجود الكثير من الأماكن التي لا يستطيع النازحون التواجد فيها، فإن السكان يتركزون في حوالي 30 كيلومترًا مربعًا من رفح، وبالتالي هذا يرفع الكثافة السكانية إلى ما يزيد عن 50 ألف نسمة لكل كيلومتر مربع، وهي نسبة تعد العليا في العالم، بالإضافة إلى أن النسب القريبة منها مثل نسبة النازحين من الروهينغا في مخيمات اللجوء في بنغلاديش عام 2017 وصلت إلى 40 ألف نسمة لكل كيلومتر مربع، لم تكن تحت الحرب والحصار، كما هو الحال في رفح حاليًا.

وكان قطاع غزة يعتبر من المناطق الجغرافية الأكثر كثافة سكانية في العالم قبل العدوان، وحاليًا وقد تضاعفت هذه الكثافة إلى 10 أضعاف، فإننا نتحدث عن حالة غير مسبوقة أبدًا من شأنها أن تشلّ عمل أي جهاز إداري أو حكومي، حتى لو لم يكن هناك قصف وحالة أمنية خطيرة؛ بسبب العدوان والحصار والتجويع.

وقد شهدت مدن شتّى حول العالم انعدامًا للحالة الأمنية وانتشارًا للعنف مثل كينشاسا وريودي جانيرو، وفشلت البلديات في تقديم الخدمات بسبب الزيادة السكانية، دون وجود حرب إبادة أو حصار، فكيف إذا أضيفت هذه العوامل؟ ولنا على سبيل المثال أن نشير هنا إلى أن عدد العاملين في بلدية رفح هو 200 شخص فقط، يقدمون الخِدمات لمليون ونصف المليون نازح.

ومع ذلك أبدت الجبهة الداخلية في رفح أيضًا صمودًا غير مسبوق وصبرًا وتحملًا شديدين بالرغم من الضغط الديمغرافي، كما تم اجتراح العديد من الآليات لضبط الحالة الأمنية والصحية والاقتصادية، والتوزيع العادل للمساعدات الإنسانية، وإدارة مراكز الإيواء وفرق الطوارئ والنظافة.

وقد نفّذت بلدية رفح منذ بداية العدوان آلاف المهام لإنقاذ وإجلاء للجرحى، ودفن الشهداء وإعادة فتح الشوارع وإزالة الركام وتنظيم مراكز اللجوء، كما عملت المؤسسة الأمنية والاقتصادية لتنظيم الأوضاع، كما قامت الشرطة بتأمين شاحنات المساعدات وواجهت الفوضى والجريمة.

يعد استهداف فائق المبحوح – المدير في الشرطة في غزة والمسؤول عن التنسيق مع العشائر والأونروا لتأمين المساعدات في غزة – امتدادًا لسلسلة الخطوات الإسرائيلية لاستهداف مقومات السيادة التي تتبع لحركة حماس في قطاع غزة

الفوضى الموازية للتهديد

بات معلومًا أن حكومة الاحتلال توظف التهديد باجتياح رفح بريًا؛ للضغط في عملية التفاوض بشأن صفقة شاملة حول وقف إطلاق النار على الأقل في الوقت الحالي، وحتى مع أخذ سيناريو العملية البرية بالحسبان، فإن هناك مسارًا موازيًا خطيرًا يقوم به الاحتلال الإسرائيلي يعتمد على خلق حالة من الفوضى في رفح عبر استهداف كل مقومات الاستقرار والنظام ومظاهر السيادة.

بداية لم تسمح حكومة الاحتلال إلا بدخول عدد محدود من شاحنات الغذاء والمواد الإغاثية عبر معبر رفح، ولم تلبِّ هذه الشاحنات حتى الحد الأدنى من احتياجات هذا الكَم البشري الكبير الذي تجمّع في مدينة رفح. ووفقًا لرئيس بلدية رفح، فإن كمية المساعدات التي دخلت تكفي فقط لحوالي 10% من السكان.

وبالتالي أرادت حكومة الاحتلال من خلال هذا الكم المحدود والمحسوب للمساعدات أن تخلق شرخًا بين المجتمع والمقاومة من خلال الضغط على الحاضنة الشعبية، فيما يتعلق بالاحتياجات الأساسية.

كما أن توزيع هذه المساعدات المحدودة لن يصل لكافة السكان، ويعول الاحتلال أن يثير ذلك الاستياء، ويمهد الطريق لحالة من الفوضى والسيطرة على المساعدات بالقوة، وهذا ما حصل في حالات محدودة، تم التعامل معها من الشرطة في رفح والتي واصلت عملها بالرغم من الخطر الكبير الذي يحدق بها، حيث عملت الشرطة على حماية ظهر المقاومة، وحفظت الجبهة الداخلية، وتصدت للمخالفات الأمنية والاقتصادية، وكافحت الجريمة، ولاحقت المشبوهين، وقامت بتأمين شاحنات المساعدات وراعت عملية التوزيع بالطرق السليمة، والبيع بالأسعار المحددة.

استهداف الشرطة ولجان الإغاثة

من أجل إنجاح سيناريو الفوضى والفلتان الأمني وخلخلة الأمن الداخلي، عمل الاحتلال الإسرائيلي على استهداف قوى الشرطة المدنية في مدينة رفح، وقد استشهد العشرات من قادة وعناصر الشرطة التابعين للحكومة في غزة، في مدينة رفح، عبر استهداف السيارات الشخصية أو سيارات الشرطة المعروفة، أثناء تأمينهم المساعدات الإنسانية.

ويعد الوجود الشرطي في رفح نوعًا من السيطرة الإدارية للحكومة في غزة، وهو الأمر الذي يزعج حكومة الاحتلال الإسرائيلي بشدة، ويظهر فشل مخططاتها المتعلقة بأهداف الحرب، أو ما يسمى باليوم التالي.

وبالنظر إلى أهمية الحفاظ على الحالة الأمنية، ظهرت صور جديدة مساندة في ظلّ الاستهداف الممنهج للشرطة، وهي لجان الحماية الشعبية، وهي لجان منظمة تقوم بالتواجد في الأسواق وتنظم الطوابير الطويلة أمام المخابز والمتاجر والبنوك، وتمنع التجار من الاستغلال ورفع الأسعار. ولعلّ الهدف الأهم والأشمل هو منع تحقق هدف الاحتلال بنشر الفوضى بين هذا الكم الكبير من السكان.

من المرجح أن خطط الاحتلال لضرب الحالة الأمنية والسيادية في غزة، ستمنى بالفشل، خاصة إذا نظرنا إلى أنه بعد كل التدمير في مناطق شمال القطاع، عادت الحالة الأمنية والشرطية لضبط الأوضاع بعد انسحاب قوات الاحتلال، وقد كان لها نجاح واضح في تأمين المساعدات في شمال قطاع غزة قبل عدة أيام، ولهذا عاد الاحتلال لاستهداف عدد من كوادرها في إصرار واضح على السياسة التي يتبعها الاحتلال.

يعد استهداف فائق المبحوح – المدير في الشرطة في غزة والمسؤول عن التنسيق مع العشائر والأونروا لتأمين المساعدات في غزة – امتدادًا لسلسلة الخطوات الإسرائيلية لاستهداف مقومات السيادة التي تتبع لحركة حماس في قطاع غزة.

وفي بُعد آخر يخدم هدف الاحتلال بتدمير أي مظاهر للسيطرة الحكومية والإدارية، وعلاوة عن الشرطة المسؤولة عن الأمن، استمر الاحتلال في استهداف الأشخاص والمؤسسات المحلية المسؤولة عن ترتيب أوضاع المساعدات الإنسانية والشؤون الإغاثية، ولم تسلم حتى المؤسسات التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا، بل كانت في عين الاستهداف؛ لأن الاحتلال يهدف من وراء هذا الاستهداف القضاءَ على أي بنية إدارية منظمة يمكن أن تدير الأوضاع فلسطينيًا بما لا يخدم أجندته، وقد قام الاحتلال بقتل أكثر من 130 شخصًا من العاملين في المجال الإغاثي والإنساني.

وفي هذا السياق، قامت قوات الاحتلال يوم 13 مارس/آذار 2024 باستهداف مركز لتوزيع الأغذية تابع للأمم المتحدة في مدينة رفح، وقتلت فيه 4 أشخاص منهم موظفان بالأونروا ومسؤولان عن لجان الطوارئ، وخدمة الناس في مدينة رفح.

الجبهة الداخلية

تدرك دولة الاحتلال صعوبة القضاء على الجهاز العسكري لحركة حماس، ولهذا قامت بالانتقام من الحاضنة الشعبية المؤيدة للمقاومة، ثم لم تكتفِ بقتل أكثر من 31 ألف فلسطيني جلهم من النساء والأطفال، بل لا تزال تعمل على تفتيت كل صور السيادة والحكم والاستقرار، وأي هياكل إدارية تسعى لحفظ الأمن وإدارة الحالة الإغاثية؛ ظنًا منها أن هذا سينجح في التمهيد لتصوراتها المستقبلية لقطاع غزة، ولهذا ستبقى معنية بنشر الفوضى في رفح، وهذا يستوجب الحذر من كل المخططات، والمرونة في استحداث أدوات المواجهة.

إن هذا السلوك الذي يسعى لتدمير كل مقومات الحكم والإدارة في غزة، ينتمي دائمًا لإستراتيجية إسرائيلية تقوم على عدم الاعتراف بوجود الإنسان الفلسطيني، وعدم وجود مقومات الكيانية لديه، ولذلك لا يرجح أن تتراجع دولة الاحتلال عن سياسة تدمير مقومات الكيانية الفلسطينية بالرغم من عدم وجود ثمار لها حتى الآن، ولكن بنفس القدر سيستطيع الفلسطينيون دائمًا تطوير أشكال جديدة تراعي الأولويات الوطنية، وتحافظ على نوع من الإدارة الوطنية بالرغم من مواجهتهم أبشعَ أنواع الإبادة في هذا العصر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.