Home سياسة يحيى جابر: المونودراما صنعتي والجماعات اللبنانية خائفة

يحيى جابر: المونودراما صنعتي والجماعات اللبنانية خائفة

7
0

يطل يحيى جابر على الساحة الفنية اللبنانية بثلاثة عروض مونودرامية ترتكز على البيئة اللبنانية بتشعباتها واختلافاتها وتعابيرها واختباراتها الوجدانية والإنسانية. ثلاثة نصوص جديدة كتبها ويخرجها وهي “مورفين” (مع سوسن شوربا) و “من كفرشيما للمدفون” (مع ناتالي نعوم) وقريباً “شو منلبس” بعد “مجدرة حمرا” (مع أنجو ريحان)، تعيد قراءة الأحوال اللبنانية جماعياً وفردياً، سياسياً واجتماعياً، تجمع بين الماضي والواقع الذي آلت إليه، بعد حقبات من الحروب والسلام الأهلي “البارد” بحسب عبارة الكاتب وضاح شرارة. مسرحيات مونودرامية تتشظى فيها الذات اللبنانية وتتشتت الذاكرة العامة لتنهض من ثم صورة بانورامية شاملة تخترق المناطق الجغرافية والخريطة التاريخية ثم تنكفئ إلى الفسحة الداخلية الفردية جداً كما في “مورفين”. نصوص جابر تخرج من تحت “الواقع” اللبناني، حاملة معها المكبوتات والممنوعات والأفكار التي يتم السكوت عنها، فتنفجر المونولوغات والجمل والكليشيهات الضرورية والأسئلة والمصائر المتضاربة.

عن عروضه الأخيرة والأعمال المقبلة في سياق ما يمكن أن يسمى لديه المسرح اليومي أو شبه اليومي والذي تتواصل فصوله بالتوازي، وعن التجربة الكتابية وأزمة النص المسرحي وقضايا أخرى كثيرة التقت “اندبندنت عربية” جابر وكان لنا معه الحديث الآتي.

سألناه بداية عن زحمة هذه العروض بعضها مع بعض وتقديمها على الخشبة ليلة تلو ليلة، فيجيب: “لديّ سببان في الحقيقة. الأوّل موضوعي وهو الحرب، لا أعرف إلى أين سيحملنا الغد. إنني منشغل الآن بفكرة الحرب، وكأننا في كل لحظة على مشارف الموت والخراب. في هذه اللحظة بالذات أنشغل بما أجيده وهو المسرح، إضافةً إلى أشياء أخرى على شكل مخطوطات بين شعر ونثر. أما السبب الثاني فهو شخصي خاص وهو إصابتي بالسرطان في مارس (آذار) الماضي مما اضطرني إلى استئصال كليتي. كلّ هذا أعطاني دافعاً إلى إنجاز ما يجب عليّ إنجازه. ببساطة هذا ما يجب عليَّ فعله، كي لا أنشغل بأي فكرة أخرى، إنها رحلة بحث دائم. أبحث وأفشل ولا مشكلة، أحب الفشل ولكن ما يعني لي هو المحاولة والعمل والجهد والانشغال والهم الدائم بما أعرفه”.

الهوية المونودرامية

لا بد هنا من سؤاله عن انتقاله إلى المونودراما بعد عمله لسنوات في المسرح العادي القائم على مشهدية كاملة برفقة عدد من الممثلين، فيقول: “اشتغلت سابقاً بمسرحيات كبيرة تضم ما يفوق الـ20 ممثلاً، ولكنني أجد نفسي اليوم في المونودراما لعدة أسباب. أبرزها أنني منتج نفسي، هذه الحيثية تتطلب مني أن أحتال وأن أبتكر حيلاً لكي أنجز ما أنجزه بعيداً من قيود التمويل وغيرها. أسأل نفسي: هذه السلعة كيف تنتج؟ وأجيب أنّ اتكالي فعلاً على النص. أنا بطبيعتي لا أميل إلى السينوغرافيا التي تتغافل عن النص كأولوية وتتغافل عن الممثل أيضاً، أهرب دائماً من القنابل الصوتية والقنابل الدخانية التي تتجاهل فكرة الممثل أو النص في المسرح على الأقل. النص أولاً ثم يترافق معه الممثل، إنهما عاملان ضروريان لإنتاج الفكرة الأساسية والمسرحيّة الواحدة”.

أسأله عن رواج المسرح الميلودرامي واعتماد هذه التقنية اليوم كحلٍّ لما يسمى أزمة النص المسرحي في لبنان والعالم العربيّ، فيرد: “الأسباب كثيرة، المسرح ابن الشعر وابن اللغة. أزمة المسرح العربي هي أزمة النص لأنه الأساس. النص الذي يجب أن تكون خلفه فكرة. هذه الفكرة كيف تُعالج؟ هل سبق لأحدهم أن تطرق إليها؟ لا يكفي أن نكتُبَ نصاً. الأهم ماذا نقول؟ كيف نقول؟ بماذا تختلف عن غيرك في القول؟ في كيفية معالجة الموضوعات؟ هل تميزت عن غيرك؟ هذه الأسئلة من الضروري أن تكون حاضرة قبل الشروع في أيّ نص. الثقافة العربية، مسرحاً وشعراً وفناً، على العموم، تبدو لي كأنها، في شكل ملتبس، مرتاحة مع نفسها. تنظر إلى مهرجان مسرحي تجريبي يعرض النصوص وهي تخضع للرقابة، فتسأل هنا: أين عامل الحريات؟ أين حرية التعبير؟ أين المخيلة؟ أين اللغة حين تمتد بالتجريب إلى أقصاها؟ هذه يمكن أن تكون جانباً من جوانب أزمة النص المسرحي العربي”.

ننتقل معه إلى المونودراما وماذا يمكن أن يعني العمل على نص الممثل الواحد فيوضح قائلاً: “منذ بداية المسرح برز الممثل اليوناني الأوّل آنذاك وفكرته التي بدأها وحيداً. أعود هنا إلى فكرة المسرح الأوّل، الشاعر الأول، أتفرج على الممثل الواحد وأتابعه وأتفاعل معه وأكون متفرجاً. لا يمكن أن يتفلت العرض من يد الممثل والجمهور أيضاً. أتلصص على جمهوري. العمل عندي هو في شكل دائم قيد الإنجاز، هذا طبعاً بعد أن أنهي اللمسات الأولى والأساسات اللازمة. يبقى العمل قيد الإنجاز ورهين الأسئلة والتطور”.

فن المناطق

أقاطعه لأسأله عن خوضه ما يسمى تجربة المناطق اللبنانية بما تحمل من ثقافات وعادات وأخلاقيات شعبية وحتى سياسية، وما يواجهها من صعوبات فيؤكد قائلاً: “من حقي أن أتعرف إلى شعبي أو “شعوبي”، وعلى أهلي ومواطنيّ بكافة أطيافهم. الأعمال هذه جزء من محاولتي للتعرّف إلى أناسي ولأكون بمثابة تلك الصّلة أو الجسر أو المعبر فقط بينهم وبين الأطياف الأخرى. أنا مجرّد محاولة وصل لهذه المجتمعات التي تتفرج بعضها على بعض. أحاول “تعرية” الصورة وطرح الأسئلة عن هذه الأمكنة. ماذا تحوي؟ أبحث عن الخلل والأمراض ومكامن الجمال في هذه البقع. هل هناك جمال؟ أين الأوجاع والمشكلات التي لم يقدّر لها أن تخرج أو تُقال؟ محاولات دائمة لطرح الدراما الجدية والحقيقية الكامنة خلف كلّ ضحكة في هذا المجتمع السوريالي المسمى لبنان. هذا هاجسي ببساطة وكابوسي وحلمي”.

ولدى سؤالي عن الصعوبات التي يواجهها في رحلة خوض هذه التجربة الخطيرة يصرّح: “الصعوبة الكبرى تكمنُ في التخلي عن ميولي السياسية في قراءة الآخر، أتخلّى عن نوازعي وأفكاري السياسية لدى معالجتي للآخر. لا يمكن أن أروي عن منطقة اليمين من دون أن أكون مكانها، وكذلك كلّ المناطق الأخرى. أضع نفسي مكانهم ببساطة، لستُ أنا الذي يريد ذلك وإنّما النص والناس. هم الذين يتكلمون بلساني وبنصي وليست رغباتي. ولا رسالة عندي، وببساطة أنا أريد أن أكونهم. ماذا يفكرون وكيف يتكلمون؟ ما هي كوابيسهم وما هي هواجسهم؟ ماذا خسروا؟ كلّ هذا ضمن منطقهم هم. أضع نفسي وأتعامل مع الأشياء بمسافة حتى أعرف كيف أوصل الهواجس إلى الجماعات وربما هنا تكمن الصعوبة”.

يكمل كلامه عن حال تلك الجماعات: “كل هذه الجماعات التي أنقلها وتسكن أعمالي هي جماعات خائفة مرعوبة من نفسها، من الداخل. كل كائن منهم مبني على خوف وحذر من الآخر. محاولتي تكمن في فتح النوافذ والشبابيك والأبواب لهم ليرى بعضهم بعضاً داخل هذه المساحة المعتمة التي تسمى مسرحاً”.

جريمة مستمرة

 أسأله عن نظرته إلى هذا البلد اليوم وعن إمكان وجود فرصة لتلاقي اللبنانيين أجاب: “صراحةً أنا أعمل على عمل بعنوان “لبنان مكان جريمة”، أنا كمحقق أو كمخبر إبداعي أفتّش عن جريمة دائمة مستمرّة داخل هذا البلد. هذه العناصر تخلق التشويق وعنصر الدهشة. أبحث هنا وهناك. هل هناك عدالة؟ هل لبنان وطن لكل أبنائه؟ هل بلدنا ما زال موجوداً؟ هل إذا عبّرت عن لبنانيتي، أصبح مريضاً بالشوفينية؟ هل أنا عربي؟ كل هذه الأسئلة هي التي تحتل بالي الآن، وفي كلّ لحظة أريد أن أكتب نصاً عن المناطق أو انطلاقاً منها. أنا ابن الحرب الأهلية اللبنانية بكافة تفاصيلها، وهؤلاء الذين أتحدث عنهم هم كانوا خصومي في السياسة والحرب والأفكار والتطلعات. كنتُ شيوعياً ذات يوم وها أنا اليوم أبكي معهم وأتحدث عنهم وبلسانهم. أتعرّف وأتعلّم وأصغي، ولا شيء أهم من الإصغاء”.

أسأله عن حيثيات كتابة النص وتقنياته وطرائق كتابته فيقول: “هناك أنواع من الكتابة، أحياناً تأتيني فكرة مثلاً بالدخول إلى الطائفة الدرزية أو المارونية وسواهما. تعجبني الفكرة، وأترك هذه الفكرة تنضج. أتركها تخطر في رأسي لحين توافر الشخص المناسب بعد الكاستينغ. شيئاً فشيئاً يتحوّل معي هذا الشخص ليصير هو المادة. هو يُدخلني في عالمه وأنا آخذه معي إلى أسئلتي. وبالتالي يولد النص الذي يفرض نفسه. برأيي لا يوجد كتابة واحدة، هناك كتابات، وفي هذه الحالة أنا القبطان، أملكُ روح الممثل وأترك له تأليف الأنسجة والتعبير، فتغدو الكتابة لعبة تواطؤ بيني وبين من أشتغل معهم. شخصياتهم تعطيني الذهب تمثيلياً والنص يحوله إلى سبائك”.

أسأله هنا عن حرية الممثل في مسرحه، هل يترك له حرية الحركة والتعبير والظهور أم أنه يفرض عليه رؤية محددة، فيجيب: “الموضوع بين بين. هناك مساحات حرية ومساحات انضباط. هناك خريطة طريق أرسمها، مع المراس والتعوّد، يغدو الآخر مرناً لدرجة أنه يعبر بنفسه. يصبح مع التمرين المسار واضحاً”.

انتقل معه إلى اختياره سوسن شوربا، المريضة بالسرطان للتمثيل في مسرحيته المونودرامية وحيدة، وأسأله عن سر هذا الاختيار، وإذا كانت التجربة سهلة فيقول: “سوسن في الحقيقة أدهشتني. ما جذبني طبعاً هو وجعها الشخصي والفردي. وما لفتني أيضاً هو رغبتها الحقيقيّة في الصعود إلى خشبة المسرح. اصطدمتُ بحماستها ورغبتها في التعبير عن نفسها. أصغيت إليها وسألتها على مدى عشر جلسات من اللقاء. كل هذا حفزني لآخذ قراري وأعمل مع حالة أراها للمرة الأولى. إنها شجاعة وقادرة على التمرين في أوقات، وفي أوقات أخرى غير قادرة نظراً لتلقيها العلاج الكيميائي، ونظراً لتناولها المورفين. هكذا صرتُ أنا شخصياً أمام تحدٍ دائم حول قدرة هذا الكائن، حتى على إكمال العرض المسرحي الواحد، كل ذلك نتيجة وضعها الصحي، فغدا طموحي أن تحقق هذه المرأة حلمها”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أسأله عن الممثلة ناتالي نعوم الآتية من الكوميديا وتجربته معها فيعلّق: “الحقيقة أنّ ناتالي هي طاقة هائلة لا يمكن إغفالها، من خلفية كوميدية معينة استطاعت أن تتحول إلى امرأة درامية بكل معنى الكلمة، وسط التنوع في الشخصيات والانتقال بينها بطريقة بارعة، تتوقف وتقدم إنجازاً درامياً. على خشبة المسرح تروح وتجيء، تمسك بالجمهور منذ إطلالتها الأولى، وهذه علامة خير”.

وقبل أن أختم معه أسأله عن التاريخ الذي يحضر بقوة في أعماله فيجيب: “التاريخ يتلاعب بنا. نحن لسنا بخدمة التاريخ كما هو. ليس هو الذي يقرر الأحداث كما هي. نعم نحن نسهم في صنع التاريخ بشكل أو بآخر. لا أستطيع أن أغفل التاريخ المسيحي والإسلامي، سيرة هذه المواجهة الدائمة، المشارب المتعددة التي سيطرت على البلد، الهجرات أيضاً والتقاتلات الداخلية… هذا ليس تاريخاً بل وقائع حقيقيّة. أنا أسرد الوقائع، ولكن مع الوقت اكتشف أن حتى هذه الشعارات، ولو كانت وقحة، تفرغ من معانيها ومن قدراتها على الإضحاك أو خلق التفاعل”.

اختم معه بسؤال عما بقي له بعد كل هذه العروض، عن سيرة هذا البلد وأحواله فيجيب: “هناك قطعة صغيرة من لبنان لا يستطيع أحد أن يأخذها، قد يأخذون المرفأ والملهى والمصرف وغير ذلك. لكنهم لا يستطيعون أن يأخذوا حرية التعبير وديمقراطيتنا الموجودة فينا، بسبب هذا التعدد. هذا التعدد هو الهامش الصغير الذي يسمح لي بأن أتحرك على الأقل كشخص قادر، يبدع يفكّر ويتخيل. هذا هو رصيدنا وهذا هو الحيز الذي أعوّل عليه. ما زلت مؤمناً بهذا البلد، أحبه وأكرهه وأتطلع إليه بمعزل عن كل شيء، عن الفساد والحروب المستمرة. بلد يعطيني الدهشة كلّ يوم”.