Home سياسة هل معركة جنوب أفريقيا في لاهاي إيرانية؟

هل معركة جنوب أفريقيا في لاهاي إيرانية؟

10
0

تفاجأ الكثير في الغرب عندما وجهت حكومة جنوب أفريقيا مذكرة اتهام بحق إسرائيل “لارتكابها جرائم إبادة” بحق مدنيي غزة، إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، ليس دفاعاً عن إسرائيل أو الفلسطينيين، بل لأن دخول بريتوريا خنادق الحرب الدبلوماسية خاصة لدى المحاكم الدولية، هو أمر شبه جديد بالنسبة إلى الماضي. فصحيح أن حكومات جنوب أفريقيا منذ ربع قرن وقفت مع منظمة التحرير ودافعت عن “القضية الفلسطينية” وفتحت أبوابها للعالم العربي واليسار الليبرالي الدولي، وهي سياسة تقليدية للدولة الأفريقية التي كسرت غلال التمييز العنصري (Apartheid)، واستمرت بتذكير الغرب بماضيه الاستعماري الطويل في أفريقيا، وقد وصلت إلى موقع الرمزية القصوى في جامعات الغرب خلال عقود ما بعد الحرب الباردة. 

وتحول زعيم المعارضة السابقة لحكومات “الأبرتهايد”، وأول رئيس للدولة بعد سقوط حكم “الأوروبيين” نيلسون مانديلا إلى شخصية عالمية قبل وفاته. هذا معروف، ومنتظر، وطبيعي. ولكن تحرك بريتوريا الحالي لتقاتل إسرائيل في لاهاي على أساس حرب غزة فيها ما يدغدغ شعور الناس المنزعجين من العنف وسقوط المدنيين والدمار اللامحدود. ولكن فيها أيضاً عناصر جيوسياسية ودبلوماسية لها علاقة بخيارات إقليمية تتقاطع أكثر مع أجندة إيران منها انحصارها بقضية فلسطين. بكلام آخر، وكما هو الحال مع الحوثيين، فما يقف وراء الهجوم على السفن التجارية في البحر الأحمر هو قرار من طهران أكثر منه تضامناً مع غزة. وما يقف وراء وثبة بريتوريا على لاهاي، قد يكون مختلفاً عن مجرد دعم شعب غزة. وقد يكون فصلاً آخر من فصول التضامن مع إيران وأجندتها الإقليمية والدولية. والأسئلة باتت تتراكم حيال الماضي والحاضر حول العلاقة بين “المؤتمر الوطني الأفريقي” ANC الذي يحكم أفريقيا الجنوبية و”الجمهورية الإسلامية” في إيران.

جذور الحرب الباردة

خلال عقود الحرب الباردة تحالفت موسكو مع القوى الماركسية والشيوعية في العالم، بما فيها خاصة في العالم الثالث وأفريقيا عامة، وجنوب أفريقيا تحت حكم “الأبرتهايد”. وتوطدت العلاقات بين يساريي الأغلبية السوداء بقيادة المؤتمر الوطني الأفريقي ANC والكتلة الشرقية السوفياتية، وسمح ذلك بتقوية التيار الشيوعي داخل المعارضة “الأفريقية” لنظام بريتوريا خلال الحرب الباردة. وزادت تموقعات الصراع العربي الإسرائيلي التقارب بين يسار أفريقيا الجنوبية واليسار العربي أكان أنظمة كالبعث والناصريين، أم الأحزاب الماركسية العربية، ومنها الفلسطينية. أضف إلى ذلك تحالف إسرائيل مع حكومات جنوب أفريقيا “الأوروبية” الذي قام بسبب التأييد السوفياتي للمعارضة الماركسية الأفريقية وللقوميين العرب بنفس الوقت، فقام تحالف بين إيران الشاه وإسرائيل وجنوب أفريقيا “الأبرتهايد”، بوجه عرب اليسار والـ ANC والاتحاد السوفياتي. لذا مع سقوط النظام في بريتوريا في بداية التسعينيات ووصول “المؤتمر” إلى السلطة، وتولي مانديلا السلطة الرئاسية، تراجعت العلاقات المميزة بين جنوب أفريقيا الجديدة وإسرائيل، ولكن مانديلا والمطران ديسموند توتو، قطبا الحركة التحررية الوطنية، فضلا خط الاعتدال الدبلوماسي للحصول على الدعم الاقتصادي الغربي بعد خروج “القوة المالية الأوروبية” (أو البيضاء) من القطاع العام تدريجاً. أضف إلى ذلك قرار القيادة الفلسطينية، ولا سيما ياسر عرفات أن يدخل آلية السلام، وكان “أبو عمار” حليفاً رمزياً قوياً لمانديلا. لذا خفف المؤتمر لهجته العلنية ضد إسرائيل، حتى خروج “الرفيق المؤسس” من الحكم، فصعد اليساريون أكثر في درجات السلطة. وحصل تطور دولي خلق محوراً جديداً بين الراديكاليين عبر الشرق الأوسط وأفريقيا، و هو دخول “الجمهورية الإسلامية” على الخط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المحور النيو-ماركسي الخميني

ما لم يفهمه الكثير في الغرب هو أن جزءاً من اليسار الدولي دخل في شراكة مع إسلاميي نظام الخميني منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، لانعدام “الداعمين الدوليين” بينما استمر يساريون آخرون بمقاومة “الجمهورية الإسلامية”، وظهر ذلك بوضوح مع المجازر التي نفذها “الخمينيون” بحق اليسار الإيراني من “حزب توده” الشيوعي إلى “مجاهدي خلق”. بينما بالمقابل بنى النظام جسراً لوجستياً مع أشلاء من اليسار الدولي بما فيه في أفريقيا، و”جنوبها” الجديد. المفارقة أن الخمينيين منذ وصولهم إلى السلطة في 1979 استعدوا “الشيطان الأحمر” بشدة قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، ولكنهم لم يترددوا لحظة لاستيعاب اليساريين المتطرفين ولو كانوا “ملحدين”! نظام طهران بعد المؤسس الخميني، والقوى الفلسطينية الإسلامية بعد غياب المؤسس ياسر عرفات، وحكومة المؤتمر الأفريقي بعد خروج مانديلا من السلطة، جميعاً باتوا براغماتيين وتخلوا عن الطهارة العقائدية، وتحولوا إلى محور يقاتل المحاور الأخرى ويتنافس معهم بهدف الهيمنة وتناسوا الأهداف الأساسية وما تريده مجتمعاتهم المدنية.

“محور الممانعة الدولية”

قام محور جديد على أساس الممانعات المختلفة، وبوسطه “الجمهورية الإسلامية” ومحورها وأفريقيا الجنوبية والكتلة البوليفارية بقيادة فنزويلا. والهدف المشترك لمحور المحاور هو “مواجهة الإمبريالية والاستكبار والأنظمة التابعة لها”. وعلى مرور الزمن تطور الجسر الإيراني – الأفريقي الجنوبي بشكل خاص ولا سيما منذ “مؤتمر دوربان لمكافحة العنصرية” في صيف 2000 الذي جمع اليسار الدولي الجديد، بمحور الممانعة الشرقي، بمشاركة التيارات النيو ماركسية الغربية التي ستتحول إلى ما يسمى بالـ”وك” Woke فيما بعد. واستقبلت بريتوريا الأكثر راديكالية وفوداً عالية المستوى من إيران لعقدين وزارت قيادات “أفريقيا الجنوبية” طهران وساعدتها في علاقاتها الدولية وفي تهربها من العقوبات الغربية. بل أكثر من ذلك، تعاونت وزارة الدفاع في طهران ووزارة الدفاع في بريتوريا واستخبارات البلدين في تبادل المعلومات، وفي مواجهة “المشاريع المضادة” بما فيها التحالف العربي في اليمن ومعاهدات “أبراهام”. كما فتحت حكومة الـANC في أفريقيا الجنوبية أبواب البلاد أمام نشاطات “حماس” و”حزب الله” وسائر الشبكات المتطرفة. كل ذلك يشير إلى أن تحرك الـANC ليس بسبب غزة بل كتحرك مشترك مع إيران دولياً. والهدف منه كما كتبنا في الماضي القريب، إبعاد الأنظار عن ضرب المعارضة الداخلية في إيران، وإخفاء صوتها من المحافل الدولية، والاستفادة من الضجة الإعلامية لخلخلة الأوضاع في اليمن والهلال الخصيب. ولكن القيادة في بريتوريا ربما أقدمت على خطأ التسرع.

خطأ بريتوريا؟

مما يبدو أن جنوب أفريقيا قد تلقت طلباً من إيران بفتح جبهة قانونية دولية ضد إسرائيل، ولكن بشكل غير مباشر ضد أميركا، مع نتائج تحذيرية للدول المعتدلة، بمعنى أنه إذا نجحت بريتوريا بهكذا معركة فقد تستعمل إيران نفس السلاح ضد دول وحكومات أخرى في المستقبل. ولكن هذه الوثبة إلى لاهاي ستفتح ملفين. الأول هو تركيز أعين الكونغرس على أنشطة المنظمات الإرهابية على اللوائح الأميركية داخل أفريقيا الجنوبية، وهو أمر قد يتحول إلى تحقيق وجلسات استماع. وقد يدفع ذلك بدول شرق أوسطية وأوروبية لمتابعة ما يجري فعلاً داخل بلاد مانديلا.

ولكن الخطأ الأفدح هو الاستعجال بفتح “ملف إبادة” في لاهاي من قبل حليف النظام الإيراني، في وقت لم تتحرك بريتوريا إطلاقاً عندما ارتكب النظام في سوريا مجازر قتلت أكثر من 400 ألف مدني سوري، معظمهم من العرب السنة، بما فيها استعمال البراميل الحارقة والأسلحة الكيماوية. ولم تذهب حكومتها للمحكمة الدولية عندما ارتكبت داعش المجازر والتطهير العرقي في شمال العراق حيال الأزيديين. والاسوأ أفريقياً، بحسب ما ردده في الأمم المتحدة قائد حركة تحرير السودان داود صالح، “سكوت حلفاء الخمينيين في بريتوريا عن الإبادة الجماعية في دارفور، عندما تعرض شعب أفريقي مسلم لمجازر هائلة”، بما فيه العام الماضي، ورفض الـANC رفع الموضوع دولياً. وهو ما اعتبره الكثير من الأفارقة، وقيادة دارفور الغربية، “تخلياً عن الشعوب الأفريقية لصالح النظام الإيراني ومال الاتفاق النووي”. 

بريتوريا أخطأت بتحركها الدبلوماسي الدولي على خط “الجمهورية الإسلامية” المرفوض في العالمين العربي والإسلامي. فلو أرادت مساعدة فلسطينيي غزة لنسقت مع قوى الاعتدال والمؤتمر الإسلامي وعملت مع التحالف العربي، ولكانت طلبت من كنائسها الأفريقية المعروفة أن تطالب الكنائس الأفريقية الأميركية لتؤثر على الإدارة. بريتوريا أخطأت بالتحالف مع طهران، لأنها ستخسر العرب، والغرب، وأهم خسارة ستكون خسارة أبناء جلدتها الأفارقة المقهورين من الإرهاب.