Home News “سندريلا وأخواتها” حكي شعبي أم عقلية اجتماعية جديدة؟

“سندريلا وأخواتها” حكي شعبي أم عقلية اجتماعية جديدة؟

8
0

منذ بدايات القرن العشرين في الأقل، لم يتوقف الباحثون والمؤرخون ونقاد الأدب عن دراسة تلك الحكايات التي يفترض من ناحية مبدئية أنها موجهة إلى الصغار كي ترفه عنهم وتعطيهم دروساً في الأخلاق والسلوك الاجتماعي والتعامل مع الآخرين، ناهيك بدفعهم إلى تحمل صعوبات الحياة على أساس أن “الأمور بخواتيمها”.

وعلى رغم أن معظم تلك الحكايات حملت تواقيع بعض كبار المؤلفين الأوروبيين من الأخوين الألمانيين غريم إلى الفرنسي شارل بيرو، مروراً طبعاً بالدنماركي هانز كريستيان أندرسون بين آخرين، فإن ثمة دائماً ما يشبه الإجماع لدى باحثي القرن العشرين على أن لتلك الحكايات جذوراً شفهية من دون أن يكون لها مؤلفون حقيقيون، وأنها عاشت وانتشرت وتطورت بالتواتر، بحيث إن أصحاب التواقيع المذكورة كانوا جامعيها ومنسقيها لا أكثر.

لقد بلغ الأمر بعدد من كبار الباحثين المهتمين بسيكولوجيا تلك الحكايات من برونو بيتلهايم إلى فيليب بروب وحتى ميلاني كلاين إلى التأكيد أن البعد السيكولوجي الذي تنم عنه تلك الحكايات يرتبط بالسيكولوجيا الاجتماعية بالتالي لن يكون سهلاً البرهنة على أنه يمكن أن يكون ثمة مؤلفون حقيقيون خلفه، لكن الباحثة الأميركية روث بوتينغهايمر طلعت قبل 15 عاماً من الآن تقريباً بنظرية جديدة لا شك أنها أحدثت قلبة في عالم الدراسات المخصصة لهذا النوع من الإنتاج الأدبي.

نحو تاريخ جديد

في كتابها الذي بدأ حينها ينتشر ويلقى اهتماماً جدياً في الأوساط الجامعية الأميركية أولاً ثم في الخارج بعد ذلك، وعنوانه “حكايات الجن والسحر: تاريخ جديد” تؤكد بوتينغهايمر على أن لكل تلك الحكايات مؤلفين جاءوا بها غالباً من خيالهم، ولكن أيضاً من الواقع الاجتماعي للبيئة التي عاشوا فيها، وعكسوا في تلك الحكايات تطلعاتهم الاجتماعية، الجماعية والفردية.

بل إن الكاتبة لا تتوانى عن ذكر اسم لكاتب إيطالي، ليس مجهولاً تماماً على أية حال، قالت إنه وحده يمكن أن يكون مؤلف عدد لا بأس به من تلك الحكايات التي “حتى ولئن كانت لها خلفيات في الحياة الواقعية تربطها بالقص الشعبي الأصيل، فإنه هو اشتغل عليها معيداً خلقها من جديد على ضوء ربطها بالواقع الاجتماعي الذي أراد التعبير عنه”.

هذا الكاتب الذي تركز بوتنغهايمر على مساهمته التأسيسية في المجال الذي اشتغل عليه، هو جوفاني فرانشيسكو سترابارولا الذي تصفه بكونه “المؤلف الحقيقي لذلك النوع من الحكايات”. وتخبرنا الكاتبة أن هذا الكاتب عاش في البندقية أواسط القرن السادس عشر “الزمن الذي بدأت فيه الحداثة الأدبية تغمر كل شيء، من مسرح شكسبير وموليير إلى رواية تسربانتس، وصولاً إلى روائع إبداعات الحداثة التشكيلية”.

والحقيقة أنه لئن كانت بوتنغهايمر تشتغل في منأى عن التركيز على سيكولوجية ذلك النوع من الحكايات التي كتبها سترابارولا للصغار، لكن للكبار أيضاً، فإنها لم يفتها أن تشتغل هنا على نوع من المقارنة مع ما كان قد بدأ يسود الحياة الهولندية من ازدهار مركانتيلي وانفتاح أممي كان وراء وصول الفنون عامة إلى أوساط الطبقات المتوسطة كوريثة للأرستقراطيات والإقطاعيات التي كانت قد جعلت الفنون الكنسية تحت رعايتها.

البورجوازية المدينية

بالنسبة إلى بوتنغهايمر، حدث شيء من ذلك القبيل نفسه في أوساط البورجوازية المدينية الصغيرة في البندقية والمدن الصاعدة المماثلة لها. وتمثل ذلك ليس فقط في ازدهار الفنون والآداب في وراثة مباشرة لعصر النهضة وإنسانياته، بل كذلك في ولادة ذهنيات اجتماعية جديدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهذا التأكيد هو الذي يوصل الباحثة، على سبيل المثال هنا، إلى حكاية “سندريلا” التي تعتبر عادة من أشهر حكايات “الصغار” وأكثرها انتشاراً. وهنا بالتحديد في المجال الذي تشتغل عليه الكاتبة، الحكاية الأكثر تمثيلاً للموضوع الذي يشغلها. ففي نهاية الأمر، لئن كانت الدراسات التاريخية تفيد دائماً بأن حكاية سندريلا إنما أتت من القص الشعبي وتقاليد الحكي الشفهي الجماعي الموروث، فإن هذا لا يمكن أن يكون دقيقاً.

وبالتحديد بحسب رأيها، بالنظر إلى أن المعنى الواضح للحكاية وبنيتها السردية التي تعبق بحداثة تتجاوز الظرف التاريخي، إضافة إلى ما تحمله من تعبير عن “النجاح الاجتماعي” الذي يتحقق للبطلة على رغم كل المعوقات والظروف، أمور لا يمكنها إلا أن تكون من إبداع فردي. ومن هنا إذا كانت نسختها الأولى قد حملت توقيع سترابارولا نفسه، “يمكننا أن نكون واثقين من استحالة العثور على نسخة لها تكون أقدم من تلك النسخة حتى ولو وجدنا حكايات عديدة لدى ثقافات متنوعة تتناول ما يشبه الموضوع ذاته”، ولكن لماذا؟

المعنى وزمنه

بالتحديد تقول الباحثة “لأن المعنى الذي تحمله الحكاية إنما هو مرتبط بالزمن الذي تتحدث عنه، وبالنجاح الاجتماعي الذي لا يمكنه أن يتحقق إلا بفعل معجزة اجتماعية ما”، ففي نهاية الأمر صحيح أن سندريلا المظلومة بين أهلها، والتي لا يمكن لغير معجزة سحرية أن تنتزعها مما هي فيه، فإننا بالتالي نراها تعجز حتى عن أن تحلم بخلاص يسحبها على سلم التراتبية الاجتماعية “إلى أعلى”، ليس الحب ما أتقذها مما هي فيه، بل السحر والقوة الخفية التي كان الناس قد بدأوا يرونها منقذهم الوحيد.

تماماً كما يحدث في زمننا المادي الذي نعيشه، حيث إذ يسقط في يد البائس وقد عجز عن العثور على ترياق لبؤسه، لا يعود أمامه إلا أن يشتري بطاقة يانصيب تؤمن له نجاحاً اجتماعياً منشوداً. وهذه البطاقة هي التي تمثلت في الساحرة التي تأتي من حيث لا يمكن لسندريلا أن تتوقع لتقودها إلى الحب فإلى الخلاص بالوصول إلى قمة النجاح الاجتماعي.

 

 

الحقيقة أن تلكم هي الفكرة الأساسية التي تبثها هذه الحكاية، وهي فكرة لم تكن ذات وجود قبل أواسط القرن السادس عشر ومن غير المنطقي أن تكون من صنع فكر جماعي وأدب شفهي. ومن هنا، ولكن كذلك بالاستناد إلى تحليل عدد كبير من الحكايات المماثلة، والتي ولدت، وغالباً بقلم سترابارولا نفسه خلال تلك المرحلة الزمنية ذاتها، مثل الحكاية المعروفة عربياً بـ”ليلى والذئب” أو تلك المعروفة بـ”بياض الثلج والأقزام السبعة” فهي كلها حكايات يلعب السحر والمصادفة السعيدة الدور الأساسي فيها، بالتالي لا يمكنها إلا أن تكون معاً وليدة تلك الأوضاع الاجتماعية التي سادت في تلك المرحلة الزمنية التي عاش وكتب فيها ذلك المبدع البندقي المؤسس.

دون قناع أو مواربة

إنها المرحلة التي تشرح لنا بوتنغهايمر كيف أن “البيئة الثقافية فيها كانت منفتحة تماماً على تلقي وتقبل تلك الحكايات الاجتماعية التي يأتي السحر فيها، من دون أي قناع أو مواربة، ليفتح طريق الصعود الاجتماعي لشخص آت من بيئة فقيرة بائسة ومن أوضاع مسدودة ليس ثمة ما يشجع فيها على إمكانية أن يتخلص من أوضاعه بشكل طبيعي منطقي”.

باختصار، تقول الكاتبة، إن ذلك الأدب كنتاج لمواهب لا يمكنها إلا أن تكون فردية، لا يمكنه إلا أن يكون منضوياً في سياق وضعية تاريخية جماعية ونظرة للحياة في مجتمع بات في طريقه لخوض “عمرنة شديدة الحداثة تقوم على حلم النجاح بأي شكل من الأشكال، فإن لم يتأمن النجاح من طريق الجهد الشخصي والعمل الدؤوب والاتكالية الغيبية، فلا بأس من إبدال ذلك كله بالسحر يؤمنه ويوصل إليه”.

هذا التأكيد هو الذي يجعل الكاتبة تتجه لتربط انتشار ذلك الفكر، في مناهضته البينة لما قد تقوله الكنيسة أو لما يرتبط بفكرانية الطبقات الواصلة في المجتمع، تربطه بانتشار الطباعة وتمكن البسطاء من قراءة الكتب أخيراً بعد أن كان من المستحيل عليهم قبل ذلك أن يحصلوا سوى على كتب المواعظ والكتب المقدسة التي غالباً ما تعدهم بالسماوات وخيراتها داعية إليهم إلى سلوك درب القناعة في الحياة الدنيا.

ومن هنا لن يكون غريباً في هذا السياق أن تعتبر الكاتبة ذلك النوع من الحكايات “فاتحة حقيقية للحداثة الاجتماعية واستكمالاً لإنسانية عصر النهضة ومن منطلق أكثر واقعية وبساطة”.