الرئيسية News “حرب التحرير الوطني” و”التعريب” …

“حرب التحرير الوطني” و”التعريب” …

لعل
من أهم ما ميّز الرئيس قيس سعيد منذ ظهوره الإعلامي خبيرا دستوريا، لا مطامع
سياسية له، أو بالأحرى لا قدرة له على التموقع السياسي في المرحلة التأسيسية، هو
حرصه -على خلاف أغلب الشخصيات العامة بمن فيهم أغلب النهضويين- على التحدث
بالعربية الفصحى، أي حرصه على عدم الركون إلى اللهجة الدارجة وما فيها من مفردات
فرنسية.

وبصرف
النظر عن فصاحته أو إتقانه لـ”فن الخطابة” -بالمعنى التراثي- فإنه قد
مثّل “ظاهرة لغوية” شدّت من أزر الخبير الدستوري أو الفاعل السياسي
القادم من خارج النخب السياسية التقليدية. لقد كان “الخبير الدستوري”
قيس سعيد “أمّةً برأسه”، سواء من ناحية المعجم اللغوي أو النقد الجذري
لكل مكونات المشهد السياسي المهيمن على مسار الانتقال الديمقراطي، أو ما سيسميه هو
وأنصاره بعد 25 تموز/ يوليو 2021 بـ”العشرية السوداء”.

لقد
كان “الخبير الدستوري” قيس سعيد كائنا “برزخيا” لا يقبل
الإدراج في أي خانة أيديولوجية، ويرفض الانتماء إلى أي كيان حزبي معروف أو حتى
مجرد الاقتراب العلني منه. ولذلك أشكل تصنيفه قبل تصحيح المسار وبعده على خصومه
وأنصاره على حد سواء، فكان عند العلمانيين محافظا أو حتى إسلاميا متخفيا بحكم
مواقفه المعروفة من المساواة في الميراث والجنسية المثلية أو حتى من البورقيبية،
وكان عند غيرهم شيعيا أو يساريا متخفيا يسنده اليسار الوظيفي، خاصة بعض أطياف
“الوطد”، أو الوطنيين الديمقراطيين باعتبارهم جسما وظيفيا أو طابورا
خامسا في المنظومة القديمة.

كيف يرى الرئيس العلاقة بين سياسات “الفرنسة” (التغريب) التي حكمت التأسيس الأول (تأسيس ما يسمى بـ”الدولة الوطنية”)؟ وهل يعتبر أن هناك علاقة تلازمية بين التحرر الاقتصادي والاجتماعي وبين التحرر الثقافي واللغوي؟ وهل يمكن نجاح الثورتين اللتين تحدث عنهما الرئيس بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة (ثورة تشريعية وثورة ثقافية) من دون ثورة لغوية تتخلص من الفرنسية ومما يرتبط بها من لوبيات ثقافية واقتصادية ومن ترسانة تشريعية تحمي منظومة الاستعمار الداخلي؟

ولكنّ
كل استراتيجيات “التنميط” أظهرت محدوديتها بحكم عجزها عن فهم السردية
السياسية للرئيس من خارج أطر التفسير التقليدية، أي بحكم إصرارها على اختزال
الرئيس ومشروعه في سردية معروفة. وكانت كلفة ذلك كبيرة على الموالاة النقدية
والمعارضة الجذرية، بعد أن تبين لهم أن الرئيس يخدم مشروعه السياسي الخاص بمنطق
البديل والتأسيس من خارج الديمقراطية التمثيلية.

في
هذا المقال، نطرح على أنفسنا فهم السردية السياسية للرئيس في أسسها النظرية وفي
علاقة التنظير بالممارسة (البراكسيس)، من خلال مسألة مفردة هي مسألة
“التعريب” وعلاقتها بما يسميه الرئيس بـ”حرب التحرير الوطني”.
ونحن لا نعنى بالتعريب هنا تعريب التعليم فقط، بل نعني كذلك تعريب الإدارة والفضاء
العام، باعتبار ذلك كله جزءا من بناء مقومات السيادة والتخلص من الإرث الاستعماري،
أو باعتباره أحد الشروط الضرورية لتخليص تونس من الصهيونية والماسونية ومن الدوائر
الاستعمارية التي وراءها.

فكيف
يرى الرئيس العلاقة بين سياسات “الفرنسة” (التغريب) التي حكمت التأسيس
الأول (تأسيس ما يسمى بـ”الدولة الوطنية”)؟ وهل يعتبر أن هناك علاقة
تلازمية بين التحرر الاقتصادي والاجتماعي وبين التحرر الثقافي واللغوي؟ وهل يمكن
نجاح الثورتين اللتين تحدث عنهما الرئيس بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة (ثورة
تشريعية وثورة ثقافية) من دون ثورة لغوية تتخلص من الفرنسية ومما يرتبط بها من
لوبيات ثقافية واقتصادية ومن ترسانة تشريعية تحمي منظومة الاستعمار الداخلي؟

بعد
إعادة انتخابه لعهدة رئاسية ثانية، تحدث الرئيس عن “مرحلة العبور” التي
أعقبت “حرب استنزاف طويلة واجهت فيها الدولة خطر الانقسام وتآمر العملاء
والخونة مع جهات صهيونية وماسونية مرتمية في دوائر الاستعمار”. ولا حاجة بنا
هنا إلى التذكير بأن سردية تصحيح المسار تقوم على معجم حربي مداره “حرب
التحرير الوطني”. فالتأسيس الثاني (أي التأسيس الثوري الجديد) حسب سردية
تصحيح المسار هو حرب على جبهتين مترابطتين: حرب تحرير للداخل من كل أولئك الذين
يسميهم الرئيس بـ”الخونة” و”العملاء” و”المتآمرين”،
أي من رموز تلك المنظومة التي “مارست الإرهاب وسعت إلى تفكيك الدولة وهددت
تواصلها ووحدتها ونكلت بالتونسيين”؛ وحرب تحرر من تدخلات الخارج في الشأن
الوطني وتحرر من إملاءات المؤسسات المالية الدولية.

ونحن
إن تعاملنا مع هذه المقاربة السلطوية في المستوى النظري المحض، فإنه يصعب عدم قبولها،
بل يصعب عدم الاندراج فيها. ولكنّ الإشكال يظهر عندما نستحضر الأصل العسكري المصري
لمفردات هذه المقاربة السياسية (حرب أكتوبر سنة 1973 ومفردات العبور، الاستنزاف، حرب التحرير)، وكذلك عندما ننتبه إلى الاختلافات
الجوهرية بين الأصل المقيس عليه والفرع المُقاس من جهة طبيعة الحرب ذاتها (حرب
تحرير للأرض من عدو خارجي/حرب تحرير للدولة والمجتمع من عدو داخلي) وهوية العدو
المستهدف (عدو خارجي يمثل استعمارا جاثما على أرض مصرية/ عدو داخلي يمثل خطرا
جاثما على الدولة والمجتمع التونسي). ولكنّ سردية تصحيح المسار تذوّب هذه
الاختلافات الجوهرية -أو تقفز عليها- بربط “العدو الداخلي” أو
“الخطر الجاثم” (أي خصوم الرئيس بشخوصهم ومؤسساتهم السياسية وأجسامهم
الوسيطة) بالصهيونية والماسونية والدوائر الاستعمارية، وهو ما يجعل من “تطهير
الدولة والمجتمع منهم” أولى أولويات السلطة في العهدة الرئاسية الثانية.

إن
حديث الرئيس عن “معركة التشييد والبناء” التي أساسها ثورة ثقافية وأخرى
تشريعية تهدف إلى تمليك الشعب أدوات تحقيق مطالبه هو حديث يستدعي بالضرورة مسألة
السيادة الثقافية/اللغوية. فلا معنى لثورة ثقافية تكون تحت الاستعمار اللغوي
الفرنسي، بل لا معنى لثورة اقتصادية أو اجتماعية لا تضرب ما يؤسس التبعية ويصاحبها
في المستوى اللغوي والثقافي.

ونحن
لا نعني هنا بالاستعمار اللغوي/الثقافي فقط هيمنة اللغة الفرنسية على التخصصات
العلمية أو على الإدارة أو على الفضاء العام (مواصلة استعمال الفرنسية في اللافتات
الإشهارية، بل تسمية العديد من الشوارع بأسماء فرنسية استعمارية)، بل نعني هيمنة الفلسفات
السياسية الفرنسية على معنى “التحديث” أو “التنوير” وتحولها
إلى عائق بنيوي أمام أي تفكير مختلف في إدارة الشأن العام وهندسة الفضاء الخاص
والعام خارج قيم اللائكية. ونعني أيضا تحول خيار “الفَرنسة” إلى أداة من
أدوات الاستعمار غير المباشر (استعمار ثقافي/ تشريعي/ قيمي) رغم فقدان الفرنسية
لمكانة “لغة العلم” وحاجة تونس إلى اللغة الإنكليزية لتطوير برامجها
التعليمية وتعزيز شراكاتها الاقتصادية (خاصة في مستوى العمالة والبحث العلمي) خارج
الفضاء الفرنكفوني.

رغم
مشروعية “حرب التحرير” في المستوى النظري، فإن مقاربة هذه الحرب بعيدا
عن الشعارات وعن الاحتياجات السياسية المباشرة للسلطة في إطار علاقتها بخصومها
السياسيين يضعنا أمام جملة من الإشكاليات. فـ”معركة البناء والتشييد”
وكذلك تمليك الشعب -حتى في ظل مركزة السلطة- تحتاج إلى توسيع الجبهة الداخلية
وتقويتها.

الترابط العضوي بين مسارات “حرب التحرير” سيجعل من التحرر الاقتصادي والاجتماعي أمرا متعذرا دون تحرر لغوي وثقافي ينسف أسس الاستعمار غير المباشر. ولكنّ هذا الخيار لن ينجح في ظل مهادنة سردية التحرير الأولى (أي سردية دولة الاستقلال) وأساطيرها التأسيسية وما انبنى عليها في مستوى خيارات التنمية وفي مستوى الهندسة الاجتماعية، وكذلك في مستوى علاقات التبادل اللامتكافئ مع فرنسا خاصة، والغرب عموما

ونحن
لا نقصد هنا خيار الانفتاح على المعارضة -فالسلطة تتحرك بمنطق البديل لا بمنطق
الشريك- بل نعنى أن حرب التحرير اللغوية والثورة الثقافية تحتاجان إلى استراتيجية
واضحة وغير متناقضة داخليا. فكيف يمكن الحديث عن تحرر من الدوائر الاستعمارية في
ظل انخراط تونس في “المنظمة الدولية للفرنكفونية” وتسلم رئاستها سنة 2022؟ وكيف يمكن التخلص من الهيمنة الفرنسية -اقتصاديا
وثقافيا- بعد عودة فرنسا سنة 2023 إلى احتلال المرتبة في مستوى الشركاء
الاقتصاديين لتونس؟ وهل أن نتائج الاستشارة الوطنية حول نظام التربية والتعليم
التي أظهرت “تمسك التونسيين بالمدرسة العمومية وتطلعهم إلى مزيد التمكن من
التكنولوجيات الحديثة” تعني فقط إصلاح النظام التربوي من داخل أسسه
الفرنكفونية (أي إعادة تدوير التبعية اللغوية والثقافية)، أم تعني ضرورةَ التخلص
من الفرنسية والذهاب إلى التعريب وإلى اعتماد الإنكليزية -باعتبارها لغة العلم-
لغة ثانية عوض الفرنسية؟

إن
الترابط العضوي بين مسارات “حرب التحرير” سيجعل من التحرر الاقتصادي
والاجتماعي أمرا متعذرا دون تحرر لغوي وثقافي ينسف أسس الاستعمار غير المباشر.
ولكنّ هذا الخيار لن ينجح في ظل مهادنة سردية التحرير الأولى (أي سردية دولة
الاستقلال) وأساطيرها التأسيسية وما انبنى عليها في مستوى خيارات التنمية وفي
مستوى الهندسة الاجتماعية، وكذلك في مستوى علاقات التبادل اللامتكافئ مع فرنسا
خاصة، والغرب عموما. ورغم دسترة “المجلس الأعلى للتربية والتعليم” (بعد
نزع الصفة الدستورية عن أربع هيئات هي هيئة الاتصال السمعي البصري، هيئة حقوق الإنسان،
هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال المقبلة، هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة
الفساد)، فإنه لن يكون قادرا على إدارة ملف الاستقلال الثقافي/اللغوي في ظل ضبابية
موقف السلطة من هذا الملف السيادي.

x.com/adel_arabi21










مصدر