اغتيال حسن نصر الله.. ماذا يجب أن يبقى من سيد المقاومة …
ولخطابات المراثي مكانتها. فهي تخليد لذكرى
الميّت واعتراف له ونحن نودّعه الوداع الأخير. وقد قيل في حسن نصر الكثير من قبل
من التقوه أو تقاطعوا معه في محطات مّا. ولكن هذه الخطابات عاطفية يغلب عليها
تصوير هول الفاجعة تعمّق إحساسنا الحداد. وتدفعنا إلى حالة من الإحباط والانكفاء.
وليس أفضل من إكرام حسن نصر إحياءه بأن نجعل حدث اغتياله موضوع تفكير وأن تستشرف
مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي بعد رحيله.
ـ 2 ـ
لم تأت مكانة حسن نصر الله الأمين العام
الثالث والحالي لحزب الله منذ 16 فبراير 1992 من فراغ. فقد راكم التجارب التي صنعت
منه القائد الرّمز والخطيب الذكيّ المناور
صاحب الحسابات الدقيقة، حتّى لقّب بسيد المقاومة ومثّل بارقة أمل تخلِّص الشعوب
العربية المحبطة من حالة اليأس التي تعيشها. فقبْل أن يتولّى أمانة الحزب خلفًا
لعباس الموسوي تلقى دراسات إسلامية في لبنان وفي الحوزة الشيعية في النجف وفي
إيران ثم انخرط في حركة أمل الشيعية وأصبح
لاحقًا مندوبا لها في البقاع، وعضوًا في مكتبها السياسي المركز.
ما من شك في أنّ اغتيال حسن نصر الله حدث كبير جدا سيقدّم نتنياهو المنتهي الصلاحية، باعتباره بطلا قوميا من جديد وسيمنحه حياة سياسية أخرى وما من شك في أنّ الجيش الإسرائيلي سيتعيد شيئا من كبريائه الذي جرّدته منه أحداث طوفان أقصى يوم 07 أكتوبر 2023.
وفي تجربته العراقية تعرّف على عباس الموسوي
وتوطدت الصلة بينهما وانتهت إلى الاشتراك في تأسيس حزب الله لاحقًا. فبعد الاجتياح
الإسرائيلي للبنان عام 1982، ظهر تياران في حركة أمل، لا يرى الأول ، ضيرا في
الانضمام إلى هيئة الإنقاذ الوطني، ويقوده نبيه بري. ويرفض الثاني الانخراط في
الهيئة احترازا على وجود بشير الجميل فيها لتحالفه مع إسرائيل. ويمثله عباس الموسوي. وانتهى الخلاف إلى انشقاق الثاني
ليؤسس “حزب الله” ويرفع لواء المقاومة ولينضمّ إليه حسن نصر ومجموعة
أخرى من الشباب المتحمّس. ولكن ارتداءه لثوب المجد سيتحقّق خاصّة بداية من سنة
2000، لمّا دفع الحزب بإسرائيل إلى الهروب الذليل من الجنوب، بلا ترتيبات أو
اتفاقية مع لبنان كما كانت تشترط، متخلية عن أسلحتها وعن عملائها من جيش لبنان
الجنوبي بقيادة لحد.
ـ 3 ـ
مثلت الحرب مع إسرائيل 2006 ملحمة الثانية.
فقد شنّت إسرائيل هجومها على لبنان بعد أن قامت قوات من الحزب بقتل ثلاثة جنود
إسرائيليين وأسر جنديين ضمن عملية أطلقت عليها اسم الوعد الصادق. واستمرت العمليات
القتالية لأكثر من شهر وانتهت بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701. وإثرها، ورغم الدمار الكبير الذي لحق بالضاحية
الجنوبية لبيروت، أعلن حسن نصر الله “النصر الإلهي” بالنّظر إلى حسن
بلاء مقاتليه وإلحاقه أذى كبيرا بالعدوّ. وتحوّل إلى بطل قومي عند عديد المواطنين
العرب. فقد حطّم فكرة الجيش الإسرائيلي الذي لا يهزم، التي رسّختها فينا الهزائم
العربية.
ومع ذلك وتناغما مع اتجاه من الرأي العام اللبناني الذي عارض
“مغامرات” حزب الله، اعتبر هذه الحرب خطأ وسوء تقدير منه. فقد صرّح نصر
الله في مقابلة مع قناة “الجديدة في 27 أغسطس” 2006 بأنه نادم على العملية
ولم يكن ليأمر بأسر الجنديين لو كان يعلم أنها ستؤدي لحرب بهذا الشكل. “قيادة
الحزب لم تتوقع ولو واحدًا في المائة أن تؤدي العملية إلى حرب بهذه السعة وبهذا
الحجم. أنا مقتنع ومتأكد أن هذه الحرب كان مخططًا لها وأن أسر الجنديين كان ذريعة
لإطلاقها. لو عرفت في 11 تموز أن العملية ستؤدي لحرب بهذا الشكل، هل كنت سأقوم
بها؟ أقول لا، قطعًا لا.”
ـ 4 ـ
للحزب، بقيادة حسن نصر الله إذن، فضل في
ترسيخ الفكر المقاوم. وفضل في تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي وفي دعم
الفلسطينيين في غزّة المحاصرة خاصّة. ولكن له:
ـ إيديولوجيته التي تثير إشكالا عويصا وخطرا
على فكرة المقاومة نفسها. فشريعته تقوم على فكرة ولاية الفقيه التي أسّس لها
الخميني. فتجعل ولاءه إلى “المجتمع المسلم” قبل ولاءه للوطن. وليس هذا
المجتمع المسلم غير النموذج الإيراني الرّاهن. فبيانه لسنة يعلن1985[نحن أبناء
الأمة (مجتمع مسلم) – حزب الله الذي طليعة منه الذي انتصر من قبل الله في إيران.
هناك نجحت الطليعة في إرساء قواعد دولة مسلمة تلعب دورا محوريا في العالم. نحن
نطيع أوامر أحد الزعماء الحكيم والعادل من معلمنا الفقيه الذي يستوفي جميع الشروط
اللازمة: روح الله الموسوي الخميني ….]
ـ وله تمويلاته الخاصّة. فقد أعلن حسن نصر الله بنفسه في
خطاب له بتاريخ 07-02- 2012 : “أغنانا الله من إيران عن كل فلس في العالم..
لسنا محتاجين” مضيفا أنّ الإيرانيين “يدفعون أثمانا باهضة لوقوفهم إلى
جانب لبنان وفلسطين”.
وكلا الإكراهين كان مقيّدا له يجعله ملحقا
بالمشروع الإيراني في المنطقة. فيواجه مشكلة استقلالية القرار بعمق. ولا يستطيع أن
يتحرّك إلا في دائرة المصالح الإيرانية وإن على حساب المصلحة اللبنانية. ويدين
بالولاء لها ولحلفائها قبل ولائه للوطن.
هذا ما جعله مثيرا للجدل في لبنان وخارجه،
خاصّة بعد أن امتدت عملياته إلى التراب السوري لنصرة نظام بشار الأسد ضد الثوار
ومساعدته على الصّمود وحمايته من السقوط بفعل الثورة.
ـ 5 ـ
من هذا الارتباط بالخارج ستنشأ مختلف متاعب
الحزب:
فقد وجّهت إلى مصطفى بدر الدين الرّجل
الثاني في الحزب وقتها تهمة التخطيط لجريمة اغتيال الرئيس الحريري في فيفري 2005
والأشراف على تنفيذها بمشاركة عناصر من حزبه، بعد أن انقلب الأخير على النظام
السوري حليف الإيرانيين وأعلن أنّ وجود قواته في الأراضي اللبنانية لم يعد ضروريا.
وتعطّلت الحياة السياسية اللبنانية طويلا لرفض الحزب تدويل القضية. ثم قتل مصطفى
بدر الدين في عام 2016. فأعلنت محكمة العدل الدولية التوقف عن ملاحقته نتيجة لذلك.
وطويت صفحة الخلاف.
ـ اتهم بالتواطؤ مع النظام السوري. ووجد كثيرون في دعم
عناصره لقوات بشار خدمة للاستبداد وحيلولة
دون تطلعات الشعب السوري للحرية فيما ناصرها بعض آخر لأنه كان يرى في تصفية نظام
بشار تدميرا لمحور المقاومة.
ـ لم يسلم من الاتهام بالانخراط الفساد وفي حماية الموظفين
الفاسدين الذين يسهّلون تهريبه للسلاح وتبييضه للأموال. وعُدّ مسؤولا، كما الطبقة
السياسية بأسرها، عن الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة في لبنان. وفي 17 أكتوبر
2019، كان حزب الله، موضوعا لمظاهرات حاشدة وتدعو إلى حكومة تكنوكرات مستقلين
وإجراء إصلاحات شاملة تنقذ لبنان من أزمته. فرفع الشعار “كلن يعني كلن نصر الله واحد منن”.
ـ أُتهم حزب الله بالمسؤولية عن انفجار 2750 طن من مادة
نترات الأمونيوم كانت مخزنة في العنبر 12 في مرفأ بيروت الذي جدّ في 4 أغسطس 2020. ومن نتائجه هلاك أكثر من 190
بين لبناني وأجنبي، أكثر من 6500 مصاب، وخسائر الماديّة بأكثر من 15 مليار دولار
أمريكي وتضرر آلاف المنازل بدرجات متفاوتة.
ـ 6 ـ
بعد النصر الإلهي في حرب تموز 2006 تغيّرت
الأمور كثيرا. فثمانية عشر سنة كانت كافية للجيش الإسرائيلي المدعوم أمريكيا ليعيد
ترتيب أوراقه من جديد. فقد تمّ تحييد قدرات حزب الله إلى حدّ كبير، فالتقدم
التكنولوجي والقبة الحديدية وتدخل الذكاء الاصطناعي في التصدي إلى الصواريخ جعل
ترسانته قديمة قد تجاوزها الزّمن. والتسلّح بالأجهزة الحديثة لم يعد بالسهولة التي
كان عليها سابقا بسبب تشديد الحصار عليه.
وسمحت المدة الفاصلة بين طوفان الأقصى (7
أكتوبر2023) وحدث اغتياله (27 سبتمبر 2024) لإسرائيل باختبار قدرات الحزب والتأكد من مدى استعداد إيران التي يدين
إليها بالولاء على حمايته. فاستهدفت قنصليتها في دمشق بغارة جوية في 1 أفريل 2024.
ثم شجّعها الرد الإيراني الخجول في عملية الوعد الحق لتتقدّم خطوة إلى الأمام.
فاغتالت إسماعيل هنية على أرضها بشكل استعراضي مهين تزامن مع تنصيب رئيسها الجديد.
وبات واضحا لديها أنّ إيران لن تغامر بحلم القنبلة النووية ولن تدخل حروبا جانبية
قد تعيقها عن تحقيقه مهما كانت الأسباب.
ـ 7 ـ
بعد هذه المعطيات جميعا بدأت إسرائيل خطتها
لتنفيذ الاغتيال. فاستهدفت قادة الحزب. وجعلت حلقات سلسلته المتماسكة تنقطع.
وفجّرت أجهزة التواصل بين عناصره “بيجرز”، ذلك الحدث الذي خلناه هدفا
فإذا به وسيلة ترمي إلى إفقاده لثقته بنفسه للاختراق الأمني الكبير الذي وصل إلى
دوائر القيادة. هذا ما عبّر عنه حسن نصر الله نفسه الذي صرّح يوم 19 ـ 09 ـ 2024
تعقيبا على تفجير أجهزة الاتصال، بأن الحزب قد تعرّض إلى ضربة قاسية وغير مسبوقة.
على الأحزاب الشيعية التي تعلن الانخراط في المقاومة وتتبنى التصدي لإسرائيل أن تتخذ مسافة من الهيمنة الإيرانية وعليها أن تتعامل مع المقاومة بعيدا عن مصالحها الضيقة (هاجس القنبلة النووية والهيمنة الإقليمية)
في الأثناء كان الحزب يعمل ضمن ما أسماه
بجبهة الإسناد. فيشاغب إسرائيل مشاغبة غير مؤلمة. وينشّط الحدود الشمالية دون أن
يفتح جبهة حقيقية تشتت المجهود الحربي الإسرائيلي للتخفيف من معاناة فلسطينيي
خطابات طويلة لأمينه العام تكتفي بالوعيد. وكانت هذه العناصر جميعا تمنح الفرصة
لإسرائيل للإيقاع بصيدها الثمين ليخرج رئيس أركان جيشها متباهيا فيصف هذا الاغتيال
بكونه ” قد تم التخطيط له منذ فترة طويلة وتم تنفيذه في الوقت المناسب”.
ـ 8 ـ
ما من شك في أنّ اغتيال حسن نصر الله حدث
كبير جدا سيقدّم نتنياهو المنتهي الصلاحية، باعتباره بطلا قوميا من جديد وسيمنحه
حياة سياسية أخرى وما من شك في أنّ الجيش الإسرائيلي سيتعيد شيئا من كبريائه الذي
جرّدته منه أحداث طوفان أقصى يوم 07 أكتوبر 2023. وهذا جليّ من تصريح قائد أركانه
بقوله عن الاغتيال “الرسالة واضحة سنصل إلى كل من يهدد مواطني إسرائيل”.
ومن الجهة المقابلة سيعيش الحزب حالة من الإرباك قبل أن يستعيد توازنه ويعيد تنظيم
صفوفه. ولكن تبقى عودته إلى سالف قوته تحديا كبيرا. وسيسعى البعض إلى فرض تسويات
سياسية على حساب لبنان. ولكن كل ما ذكرناه ليس سوى تفاصيل في المعركة الكبيرة مهما
بلغ مداه.
أمّا الثابت القارّ منها فنوجزه في
النّقاط التالية:
ـ ليس حسن نصر الله شهيد اغتيالات إسرائيل الوحيد. فقبله
ضمت القائمة أبو جهاد وياسر عرفات وسمير قصير وعماد مغنية وأحمد يس وعبد العزيز
الرنتيسي وإسماعيل هنية وغيرهم. والقضية لن تحسم عبر الاغتيالات. فيذهب قادة ويأتي
آخرون ليواصلون المشوار.
ـ فلسطين أرض عربية محتلة منذ بداية الانتداب البريطاني في
1915. أي ما يزيد عن القرن. ولا يزال طريق
تحريرها طويلا جدا. ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بالمقاومة طويلة النفس التي تتطلب البحث
عن طرق مبتكرة تأخذ بعين الاعتبار المعادلتين التاليتين المتعاكستين:
ـ الإيمان بأن موازين القوى لا تخدم الفلسطينيين في
المواجهات المسلحة المباشرة.
ـ التراخي في المقاومة سيمكّن إسرائيل من تهويد فلسطين
كاملة.
ـ فلسطين أرض
عربية محتلة وإسرائيل مجرّد واجهة للاحتلال الغربي الإمبريالي الذي يهدف إلى
التخلص من الثقل اليهودي، ولأن اليهود يسيطرون على أسواق المال والذهب ويبسطون
سلطانهم على الحياة الاقتصادية في المجتمعات التي يعيشون فيها، ولغرس خنجر في قلب
المشرق الإسلامي ضمن تصور لا يؤمن بالتعدد الثقافي واختلاف الحضارات والمساواة
بينها رغم كل الشعارات المرفوعة. ولذلك فالقضية عربية إنسانية قبل أن تكون
فلسطينية.
ـ على الأحزاب الشيعية التي تعلن الانخراط في المقاومة
وتتبنى التصدي لإسرائيل أن تتخذ مسافة من الهيمنة الإيرانية وعليها أن تتعامل مع
المقاومة بعيدا عن مصالحها الضيقة (هاجس القنبلة النووية والهيمنة الإقليمية) ولكن
ذلك يظل أمرا بالغ الصعوبة بالنظر إلى ارتباطها بها إيديولوجيا وماليا بما يجعل
انتماءها إلى خطّها الإيديولوجي أعلى من التزامها الوطني. فالأطياف السياسية
الشيعية في العراق واليمن ولبنان تجعل من إيران هدفا وغاية وتذهب في الولاء إليها
إلى النهاية. أما إيران فلا ترى فيها غير وسائل وللوسائل دوما عِوض وبدائل.
هذا هو الدّرس الذي يجب أن يبقى من سيد
المقاومة بعد رحيله.